تنتصر رواية ” قدر الحساء” الإصدار الجديد للكاتب والإعلامي محمد سالم الشرقاوي، الصادرة طبعتها الأولى سنة 2022 عن دار أبي رقراق للطباعة والنشر بالرباط، لقيم الوحدة ونبذ ومقاومة الانفصال، مع ملاحظة أن زمن المراجعات غالبا ما تأتي متأخرة.
رواية “قدر الحساء”، الواقعة في 250 صفحة من الحجم المتوسط،، تندرج ضمن ثنائية السيرة والإخلاص، تتضمن ثلاثة فصول، اختار لها الكاتب عن ” سبق اصرار وترصد” – لكل واحد منها حكاية، الأولى “حكاية الأصل” والثانية “حكاية الوصل” والثالثة والأخيرة “حكاية الفصل”.
فالكاتب فضل أن تتضمن روايته التي انجز لوحة غلافها الفنان محمد الجعماطي التطواني، ثلاثة فصول، باعتماد ذات التقسيم الثلاثي في حكايات الرواية الثلاث، منتفضا بذلك وبجرأة ناذرة عن النمط التقليدى في كتابة الاعمال والبحوث الجامعية وفق النمط الفرنسي، بفضل انفتاح المؤلف على أجناس وأنماط متعددة، يعززها اتقانه لعدة لغات متنوعة تنوع تضاريس وغنى الصحراء .
وعطفا على ذلك، تتوزع الفصول الثالثة على “حكاية الأصل” التي تتضمن، ترانيم في الصحراء وقدر الحساء وعودة أحمد، في حين تتضمنشمل “حكاية الوصل” على الرقص على الحبال وأصوات الحكمة وزين السعد. أما الفصل في فتتضمن: “حكاية الفصل”،نار ” تباكة”، وحذاء بكعب عال، والعيش تحت الظلال !
مجتمع يتوق إلى الوحدة
والاستقرار
فعلى طول وعرض الرواية، ظل الكاتب ” وفيا لقيم المروءة والشهامة التي سار عليها لتكريس توجه أصيل وغير تقليداني في الكتابة، لابد من حمايته في هذا الزمن، بما يوازن ما بين المحافظة على التراث، ويقبل الحداثة بشروطها مهما كانت مجحفة، كما جاء في استهلال ناشر الرواية. وأضاف أن مؤلف ” قدر الحساء”، أماط اللثام عن ” صرح مكين من الشمائل الفضلى، لا بد لها أن تبرز وتتقوى في مجتمع يتوق إلى الوحدة بعد أمد من الفرقة، ويتشوف إلى الاستقرار، بعد دهر من الترحال، لكون أهل الصحراء… ” يحملون أفكارهم وأحلامهم وطموحاتهم، ثم يعودون في النهاية إلى موطنهم الأصلي، أملا في العيش الكريم والاستقرار”.
بهكذا قناعة، سنكون، قادرين، من دون شك، على تجاوز نكبات كانت تحركها طموحات متهافتة انتهت طريدة ثم قضى أصحابها تحت الأنفاق المظلمة أو أسرة المرض، لا يذكر الناس من أمجادهم سوى الشعارات المحمولة على ظهور الأسلحة والمجنزرات؟ ! يستخلص في هذا الصدد كاتب استهلال الرواية
فأحد أبطال الرواية: ” قُيِّد له العيش في الصحراء (وقد أتاها من بعيد)، فأغوته كما أغوت الأدباء والشعراء وجعلتهم يحتفون بها وبما اكتشفوه فيها من أسرار الفتنة والجلال والجمال، فمضوا يتغنون بأعلامها وروافدها من دون ريَّاء أو مِنَّة، حتى احتلت عوالمها موقعا أثيرا في صدورهم، مُتوجة بحب أهلها، العارفين بخباياها وبأسرارها، المُتيمين، عهدا، بقساوتها وبعتمتها وبلفحاتها”.
قضية الصحراء
قضية وطن
وقال الراوي ” إن الركاب سارت من الجنوب إلى الشمال، وفُتِّحت الأعين على جانب آخر من أديم الأرض تتدفق مياهه، فتشبعه بالخضرة اليانعة النضرة التي تستحيل رزقا لأناس كان كل عيشهم ماء السماء، يذرعون الأراضي من أدناها إلى الأقاصي طلبا لرأفة الخالق بالمخلوقات. إن هذه لحظة الحقيقة، يشتمُّ فيها الإنسان رائحة التراب، ويغرف منها ما يمسح به الأدران، ليتحرر من ثقلها ومن أحمالها فينسى ما يربطه بغير الخالق من صلات منحت لبعض القوم قدرا، وللبعض الآخر أقدارا، وميزت بين هؤلاء وأولئك بالمُقدر والنصيب.
هكذا يكون للكلام عند هؤلاء القوم حدودا ومقاصد، فلعله يمتد في جوف الليالي ليتتبع المرء بعض خيوطه وأطواره، أو تُراه ينسدل فتحمل قرائح الشعراء جزءا من صوره وأفكاره، أم يبقى عصيا على الألسن فتختزن الصحراء الكثير من ملامحه وأسراره كما يحكى الراوي .
فمن السهل أن يكسب أحدهم عطف الناس تحت ظلال الأموال والعطايا، إلا أن من يراهن على ذلك، عليه أن لا يقطع هذا الحبل حتى لا ينقطع عنه ود الوصال، ويُترك لمصيره من دون مؤازرة عند الاستحقاق. كما يقول أحد أبطال ” قدر الحساء” الذي يتساءل ” هل تستحق الأفكار والمبادئ والإيديولوجيات كل هذه التضحيات؟ هل من اللازم أن يقتطع أحدهم من راحته، ومن عمره ومن حياته ليعيش الآخرون؟ ألم تثبت التجارب والتراكمات أن زمن المراجعات كثيرا ما يحِل متأخرا وتصير اعترافات من يقف على يسار المشهد بلا معنى، وتكون الانتقادات بلا جدوى!.
شعارات بعيدة عن آداب
وسلوكات تعارف عليها القوم
وعلى ظهر غلاف الرواية يجزم صاحب” قدر الحساء” ب” أن هذه الروح الموحدة لأهل هذه الربوع ( الصحراوية )، لم يتوقف نبضها عن رياح الطموح التي وعرتها غير الدهر في بعض النفوس لتستحيل الى شعارات بعيدة عن آداب وسلوكات تعارف عليها القوم.. وانتصارهم لرموز التعايش الأمن وعناصر التواصل شمالا وجنوبا، شرقا وغربا ..” ، إذ أن من يتأمل مقاطع من هذه الرواية، لابد أن يقف مشدوها أمام مشاهد تستحق التأمل..”، وتكاد حركات الشخوص وسكناتهم، تطفو على بياض الأوراق، ليحس القراء بأنفاسهم وبتأملاتهم، مجسدة دقة البيان، وسلامة البنيان، مما ينزع على العمل برمته مسحة من الحرفة في الاشتغال على مساحة من الأقصى إلى الأقصى، تجعلنا أما سيرة مختلفة، تعكس النبوغ المجتمعي، الذي يتقوى باستمرار، في ظل الحرية والاستقرار.
فهذه الرواية لها ميزة خاصة، في أنها تنقل سيرة، ولكنها تنقل في حقيقة الأمر واقع التعدد متمثلا في الإنسان والطبيعة التي على الرغم من أنها قد تحدث الألم، بيد أنها تكون بالمقابل أشد كرما، بفضل أهلها. وقد ترجم أحد أبطال الرواية، ذلك حينما كان ينظر بإعجاب لتجمع النمل ويتابع حركته الرشيقة، الواثقة والدؤوبة. وانتبه- ربما لأول مرة- لهذا التنظيم المحكم، الذي يملأ المكان بالرموز والدلالات والمعاني: معنى أن تكون واحدا من الجماعة، ومعنى أن يكون عملك للمجموعة، ومعنى أن تكون النتيجة للجميع!.
تحويل تيمة الصحراء
الى عمل تخيلي وتحليلي
فرواية ” قدر الحساء” تعالج ” قضية الانفصال من خلال شخصية المغرفي، ومنصور الذي يمثل الوحدة”، حسب الناقد الأدبي ادريس الناقوري خلال اللقاء الذى نظم لقراءة هذه الرواية ضمن فعاليات الدورة 27 للمعرض الدولي للكتاب والنشر بالرباط ما بين 2 و12 يونيو الجاري، في حين يرى الكاتب أحمد المدينى، أن الرواية ” تقرأ البيئة الصحراوية، مما يجعلها عملا إبداعيا يثرى المتن الأدبيالوطني”. أما المحجوب بنسعيد المسؤول الإعلامي السابق بالمنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة ( ايسيسكو)، والأديبة الصحراوية العالية ماء العنينين ، فأشادوا من جهتهم بالنفس الروائي الملحمى للإصدار الجديد الذي تمكن فيه المؤلف من الإبحار بالقراء في عوالم الصحراء، مع تحويل تيمة الصحراء الى عمل تخيلي، وتحليلي، حول الفضاء الصحراوي إلى مجال للإبداع، انطلاقا من التأكيد على أن قضية الصحراء قضية وطن.
صاحب ” قدر الحساء” محمد سالم الشرقاوي كاتب واعلامي، من مواليد البويرات بإقليم أسا الزاك، سنة 1970، حاصل على الدكتوراه في سوسيولوجيا الإعلام، مهتم بأدب الصحراء. ومن انتاجاته ثنائية السيرة والإخلاص: “إمارة البئر” سنة 2015 و” قدر الحساء” 2022 . وله كذلك مجموعة قصصة قيد الإنجاز بعنوان ” ريمونتادا”.