عاد مجددا النقاش والتقاطب حول مدونة الأسرة، بين قوى “محافظة” تعتبر خطاب العرش الأخير تحكيما جديدا حول النقاش الدائر حول عدد من القضايا الخلافية، وقوى “تقدمية” ترى في خطاب الملك دعوة للتأويل الحداثي للنصوص وملاءمتها مع القانون الأسمى للبلاد والمواثيق الدولية التي صادق عليها المغرب.
حزب التقدم والاشتراكية، أحد أهم الأطراف التي دافعت عن خطة العمل الوطنية لإدماج المرأة في التنمية، التي أثارت نقاشا حادا وصل إلى حشد مسيرتين متضادتين في كل من الرباط والدار البيضاء، “مازال سقف مطالبه المتعلقة بحقوق النساء غير قابل للتنازل”، وفق شرفات أفيلال، عضو المكتب السياسي للحزب، ورئيسة منتدى المناصفة والمساواة، في تصريح لهسبريس.
السقف ثابت
الحزب، الذي وجد وزيره في حكومة التناوب سعيد السعدي مقاومة بسبب الخطة الوطنية لإدماج المرأة في التنمية، يعتبر أن قضية المرأة تدخل في صلب اهتماماته، ويربط المسار التنموي والاقتصادي والاجتماعي للبلاد بمسار الإقرار الكامل لحقوق النساء، والاعتراف بحقوقهن الكونية وإدماجهن في التنمية.
في هذا السياق قالت أفيلال: “ليس هناك أي داع لكي نغير سقف مطالبنا التي تهم الخطة التي أتى بها من قبل سعيد السعدي، باعتبار أن الحزب تقدمي حداثي، ويعترف بكون تقدم المغرب رهينا بتقدم نسائه ورجاله”، مؤكدة أنه “بعد 18 سنة من تطبيق مدونة الأسرة، التي كانت آنذاك حدثا ثوريا بامتياز، نقلت القانون من نص فقهي كان متمثلا في مدونة الأحوال الشخصية إلى نص متقدم متجسد في مدونة الأسرة التي صوتت عليها المؤسسة التشريعية، حان الوقت لمراجعتها”.
وأوضحت المتحدثة ذاتها أن “المدونة أبانت عن اختلالات في التطبيق، ونقائص تجب معالجتها، لتكون في تناغم كامل مع الدستور”، مبرزة أنها “لم تعد متناغمة مع وثيقة دستورية حظرت التمييز بين النساء والرجال، وجعلت ذلك مبدأ قطعيا منذ الديباجة والتصدير إلى آخر فصل فيها”.
وأكدت الفاعلة السياسية ذاتها أن “هناك نصوصا تتعامل بتراتبية بين النساء والرجال، من بينها تلك المتعلقة بالحضانة والأموال المكتسبة خلال فترة الزواج، والولاية الشرعية على الأسرة، وكذلك ما يهم عدم تمكن المرأة من الحصول على الوثائق الإدارية والسفر مع أولادها، أو حتى إجراء بعض العمليات الجراحية للأطفال، أو نقلهم من المدارس”.
وفي ما يتعلق بالنسب، تقول السياسية التقدمية، إنه “لابد من الانفتاح على ما تم إحرازه من تقدم في المجال العلمي”، مسجلة بأسف “تهرب الرجال في بعض الحالات من الاعتراف بالنسب، وترك المرأة عالقة، والطفل ضائعا، وهو ما يتطلب الإقرار بضرورة اللجوء إلى التحاليل العلمية لإثبات النسب، لأنه فعل ينبغي أن يتحمل مسؤوليته الطرفان”.
مكامن الخلاف
أكدت أفيلال أن القضايا الخلافية حول مدونة الأسرة تحتاج إلى توافق، وزادت موضحة: “وإن كان سقف مطالبنا كمكون من الحركة التقدمية الحداثية عاليا فإننا نستشعر أننا لسنا الوحيدين المتواجدين داخل المجتمع المغربي، وإذا كان هناك أي تعديل أو إصلاح فينبغي أن يتم بشكل توافقي كما حدث بشأن المدونة سنة 2004”.
وفي ما يخص موضوع الإرث، قالت المتحدثة إنه “من أبرز النقط التي يمكن أن يحصل بشأنها تقاطب”، موردة: “كما جاء في خطاب الملك يجب إعمال الاجتهاد والتأويل الحداثي للنصوص التي نستنبط منها ثقافتنا وأفكارنا باعتبارنا مجتمعا إسلاميا، بالإضافة إلى استحضار كون المرأة أضحت فاعلا أساسيا ليس فقط داخل المجتمع، بل داخل الأسرة، حيث تعيل النساء العديد منها، ويتحملن مسؤولية الآباء والأمهات، ما يتطلب قدرا من الاعتدال والتأويل الحداثي للنصوص، وفتح نقاش مجتمعي رزين وعدم نبذ الآراء الأخرى والانغلاق، والانزلاق وراء التكفير”.
وزادت أفيلال أن “العديد من الفقهاء المتنورين يطالبون بإعمال منطق الاجتهاد والانفتاح في بعض النصوص من أجل أن يكون هناك إنصاف للرجال والنساء والأطفال”، موضحة أن “هناك أسرا تضم فقط فتيات، وبعد وفاة الوالدين يظهر أبناء العم وأبناء الخالات ليقتسموا معهن حتى أثاث البيت وبعض الأمور البسيطة”.
وبخصوص مسألة الإجهاض التي شملها تدخل ملكي، شددت السياسية ذاتها على “أهمية التوافق حول هذا الموضوع ومراعاة المصلحة الفضلى للطفل، وإقرار أيضا حق المرأة في اتخاذ القرار، خاصة في بعض الحالات التي يمكن أن يكون فيها الاحتفاظ بالجنين خطرا على صحتها أو في حالات الاغتصاب أو زنى المحارم، أو حالات أخرى قد تنتج طفلا متخلى عنه بدون نسب ومعيل”.
وأضافت أفيلال: “لا نسعى إلى إحداث شرخ داخل المجتمع أو إحداث تقاطب بشأن هذه القضايا، لكن يجب أن يلتف الجميع حول هذه الأمور، وأن تناقش بإعمال الفكر المقاصدي، وأن يتطور الفكر من فكر متزمت إلى فكر يراعي المصلحة الفضلى”.
وأوردت المتحدثة أن هناك قضايا ليست خلافية، لكنها تحتاج إلى مراجعة، ومنها ما يتعلق مثلا بـ”المتعة”، موضحة في هذا السياق أن “مصطلح المتعة يسلع المرأة، لذلك ينبغي الارتقاء باللغة المستعملة في هذا النص التشريعي إلى لغة حقوقية أو إلى نص مدني باستعمال بعض المصطلحات الحقوقية عوض الانزلاق وراء مصطلحات قدحية تكرس دونية المرأة”؛ كما أكدت أن “المتعة حق للمرأة”، وأن “هناك نساء تخلين عن عملهن وكرسن حياتهن داخل الأسرة طيلة الحياة الزوجية، وعندما ينقضي عمر هذه الحياة يلقى بهن إلى الشارع دون ضمانات من أجل العيش الكريم؛ إذ بعدما تطلب المرأة التطليق للشقاق تحرم من هذه (المتعة)، وهو على الأقل تعويض رمزي عما قامت به من أعمال شاقة، وتضحية داخل الأسرة”.
وفي السياق ذاته سجلت أفيلال “حرمان المرأة أيضا من الحضانة بعد الطلاق في حال تزوجت، كما أنها محرومة من الحصول على جواز السفر والسفر مع أبنائها، أو القيام بعملية جراحية لطفلها المريض، في وقت تكون وجهة الأب مجهولة؛ ناهيك عن حرمانها من تنقيل الأبناء من مدرسة إلى أخرى؛ وكلها مقتضيات أبان تطبيق مدونة الأسرة عن قصورها”، وفق تعبيرها.
كما قالت السياسية التقدمية إن “المدونة لم تعد نصا تشريعيا راهنيا، إذ إن الوعي المجتمعي نضج ونضجت معه مواقف كل التيارات السياسية، وبالتالي حان الوقت ليبادر المشرع إلى مراجعتها، لتتناغم مع الدستور والمعاهدات الدولية التي وقع عليها المغرب، وخصوصا العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية، واتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد النساء والبروتوكولات الملحقة بها”، وزادت: “بعد خطاب الملك نتمنى أن يكون هناك التفاف شعبي وسياسي وحقوقي وراء هذا الورش، ليكون المغرب هو الفائز، وأن يصطف في مصاف الدول المتقدمة التي أقرت حقوق النساء”، مستحضرة بأسف الترتيب الذي أقره المنتدى الاقتصادي العالمي مؤخرا في تقريره لسنة 2022 حول “الهوة الجندرية”، الذي “وضع المغرب في آخر قائمة الدول المتقدمة برتبة 143 من بين 153 دولة، وراء دول أقل تقدما وأقل ديمقراطية، وأقل نضجا وانفتاحا”، وفقها.