نموذج تاريخي للسعي إلى صيانة اللغة العبرية عبر اللغة العربية في الأندلس، يشهد عليه كتاب نقل حرفه إلى العربية حديثا الباحث المغربي مولاي المامون المريني، الذي درّس اللغة العبرية ومقارنة الأديان.
في جزأين، صدر هذا العمل الذي نقل حرفه من العبرية إلى العربية (عربيته كُتبت بحرف عبري) بعنوان “كتاب اللُّمَع للنحوي اليهودي الأندلسي أبي الوليد مروان بن جناح القرطبي (955-1050م)”، عن مؤسسة آفاق للدراسات والنشر والاتصال ومركز عطاء للبحث في اللغة وأنساق المعرفة.
ويقدم هذا العمل نموذج اجتهاد من أجل التقعيد للغة العبرية انطلاقا من اللغة العربية، ووضع نحوٍ لها.
وأشاد الأكاديمي أحمد شحلان، في تقديمه للكتاب، بوضع الأكاديمي المامون المريني “بين يدي القارئ العربي كتابا من أهم كتب النحو العبري وأشملها وأمتعها”؛ بل “الكتاب الفاتحة في النحو العبري على الإطلاق، الذي أقام مؤلفه بنيانه على عُمَد أمّهات كتب النحو العربي”.
وفي تصريح لجريدة هسبريس الإلكترونية، قال الأكاديمي مولاي المامون المريني إن “هذا العمل قلبٌ للحرف من العبري إلى العربي؛ لأن طريقة كتابة يهود الأندلس كانت بالعربية، لأنها كانت لغة العلم السائدة، لكنهم كانوا يكتبونها بالحرف العبري، مثل كتابة هذا الجيل الدارجة بالحرف اللاتيني”.
وتابع المتحدث: “كتب الكتاب في نهاية القرن الثاني عشر، وبدأت في القرن الثالث عشر مشاكل سرقسطة فهرب اليهود، وهو ما جعل من يعرف العبرية يقرأ الحرف العبري لكن الكتاب مكتوب بالعربية، ومن يعرف العربية يكون الحرف العبري حاجزا يوقفه”.
وسجل المريني أن كتاب “اللّمع” كان الأول في “التقعيد للنحو العبري، حسب منهج سيبويه، وبما أنه عربي ويقعد للغة العبرية بنفس المنهج العربي مع ذكر ما أهمله سيبويه وما لم يذكر مصادره وما لم يشرحه لأن معرفته كانت شائعة عند العرب (…) وتظهر بالفعل في الكتاب السمات المشتركة بين اللغات السامية، في وقت أثرت فيه العربية والدرس اللغوي والفكري العربي في غيره من قوط والترك والصقليين واليهود”.
ويسجل الكتاب أن الحكم الإسلامي في الأندلس قد “تعايش في رحابه عدد من الأجناس واللغات والمعتقدات، التي ضمن لها الإسلام الرخاء والأمان، وهيّأ لها شروط العطاء والاجتهاد والحظوة بالكدّ والجهد”، حتى أضحت بلاطات الخلفاء “مجالا للنافذين في سائر العلوم والفنون، مهما كان جنسهم أو دينهم”.
في هذا العهد، يتابع الكتاب: بدأت الدراسات التلموذية في الأندلس، ونبغ العديد من العلماء والفلاسفة والأدباء “لم تشهد اليهودية لهم نظيرا قبل ذلك التاريخ. أمثال: موسى بن عزرا وموسى بن ميمون وأبو زكريا حيوج وابن جبيرول”.
ويواصل: “ظل نحاة الأندلس اليهود تلامذة لمؤلفات النحو العربي، ولم يبتعدوا عن التقسيم المعهود لدى النحاة العرب؛ لأن اللغة العبرية لم تكن منذ سقوط مملكة إسرائيل حوالي القرن السابع قبل الميلاد، لغة تداول حي ويومي. إذ انحصر استعمالها في الطقوس الدينية والكتابات اللاهوتية عند صفوة من العلماء ورجال الدين، الذين انصب همهم وجهدهم للحفاظ على النص التوراتي وقراءته بشكل سليم، وعلى ضبط القواعد الصوتية الفونولوجية وتدقيقها، دون الخوض في القواعد التركيبية والصرفية، لانعدام الحاجة العملية إليها”.
ثم أضاف: “الظاهر أن هذا الوضع السياسي والثقافي، الفريد من نوعه، قد فجّر داخل الأوساط اليهودية – في الأندلس على الخصوص – إحساسا بالانعتاق والتحرر، لم يعرفوا له نظيرا منذ سيادة مملكة إسرائيل. فكتبوا أغلب مصنفاتهم ورسائلهم وكتبهم باللغة العربية، وتبنوا التراث الثقافي العربي واستفادوا من مناهجه واجتهاداته في تطوير ثقافتهم الخاصة، ونهلوا الشيء الكثير من معارف الإسلام ومن الاحتكاك المباشر والفعّال بأجناسه وعلومهم… الشيء الذي مهد لبزوغ العصر الذهبي للثقافة العبرية، العصر السيفاردي، الذي توهّجت سماؤه بأسماء أضاءت التراث الثقافي اليهودي”.