تتبع لثنائية الدين والسلطة بالمغرب، منذ العهد الإسلامي الأول، يحضر في كتاب جديد للباحث عبد اللطيف هسوف.
بعنوان “المملكة المغربية.. ثنائية الدين والسلطة / مقاربة تاريخية-تحليلية”، يبحث هذا المؤلف الجديد في تاريخ الوضع السياسي المغربي بدءا من رصد الإيديولوجيات المتصلة بالدين والسلطة التي تبناها الحكام المغاربة عبر العصور، وصولا إلى واقع علاقة الدين بالسلطة في البلاد اليوم.
ويهتم الكتاب بـ”إيديولوجيا الحكام المغاربة” ودورها في تشكل الدولة، ويقف عند محطات من قبيل إنشاء المدارس في عهد المرينيين لإنتاج نخبة دينية تدعم الحكم وأدوار الزوايا عبر تاريخ البلاد، دينيا وسياسيا، ويعرج على “الميولات الاستقلالية للزوايا التي قضى عليها مولاي رشيد العلوي” ووضع المغرب قبل الاحتلال، ثم تسخير المحتل، الفرنسي خاصة، للدين لإحكام قبضته على المغرب، واستغلاله مشتغلين بالدين، مع فشله في استغلال فقهاء سلفيين.
كما يقف المؤلف عند الأدوار المعاصرة لمؤسسة إمارة المؤمنين، وما يرتبط بها من نظام للبيعة، و”حراسة الحقل الديني”، ثم امتداد هذا العمل إلى جنوب الصحراء الإفريقية، والتعاون مع فرنسا. ويعالج الكتاب وقائع يشهدها تدبير المشهد الديني المغربي مثل التعامل الأمني المتشدد مع الخارجين عن المذهب المالكي الرسمي، والعلاقة بـ”التدين الشعبي” و”الحركات الإسلامية”.
ويسجل كتاب هسوف أن المغرب قد دخل في جدلية الديني والسياسي “منذ بدء الدعوة إلى دين الإسلام، أي منذ الفتح الإسلامي الأول”؛ حيث “انتشر الإسلام بين سكان المغرب الكبير تدريجيا بانتشار الفتوحات الأولى، وكان الأمازيغ عماد مذهب الخوارج (الصفريين والإباضيين)، ثم عماد مذهب السنة (دولة الأدارسة)، وأخيرا عماد مذهب الشيعة العبيديين (الفاطميين) في شخص قبيلة كتامة التي كونت العمود الفقري لجيوشهم، قبل أن يستولي على الحكم المرابطون، وهم أمازيغ صنهاجيون، تبنوا المذهب المالكي”.
ويتابع الكاتب: “مثل الأمازيغ الأكثرية الساحقة في هذه الدول، وعصب حروبها، وربما يرجع تنقل الأمازيغ بين عدد من المذاهب في البدايات إلى حداثة عهدهم بالإسلام؛ لكن أيضا إلى تخوفهم من استيلاء العرب القادمين من الشرق على النفوذ والسلطان، فيصبحوا محكومين للغير كما كانوا في فترات من العهود التي سبقت الإسلام -تحت النفوذ الروماني بالأساس- فأرادوا أن يعتصموا بهذه المذاهب، لتكون الدولة بأيديهم”.
ويسطر الباحث على الدور المركزي للدين في تشكيل الدولة المغربية، قبل أن يزيد: “جزء أساسي من تكوين المغاربة يعتمد عليه، خصوصا فيما يرجع للمذهب المالكي الذي اتخِذ منذ العهد المرابطي كمذهب ديني-إيديولوجي. وعليه، فإن كل طالب للسلطة في المغرب كان يعي هذا المعطى ويعمل على استغلاله لاكتساب الشرعية السياسية”.
هذه الفكرة لم تكن غائبة في زمن الاحتلال الفرنسي الذي انتبه إلى أن “الدين والملكية جزءان لا يتجزآن من مقومات الشعب المغربي الثقافية والحضارية والسياسية والدينية”؛ ولذا “عمل منذ تعيين الجنرال ليوطي مقيما عاما في المغرب على خلخلة المشهد الديني لصالحه مستعينا مرة ببعض الشرفاء ومرة ببعض رجالات التصوف”.
وينبه الباحث إلى “تميز النظام السياسي بالمملكة بتداخل السياسي والديني”، حيث “يستند السياسي على الديني ويوظفه في شرعنة القرارات السياسية الصادرة عنه”؛ ومن هنا يفهم “عمل المخزن”، أو نظام الحكم الذي يرأسه الملك على “تشديد المراقبة على مختلف التحركات داخل الحقل الديني غير الرسمي للتحكم في الجماعات الإسلامية التي تسعى إلى الحصول على السلطة أو على الأقل الاعتراف بها كشريك في اللعبة السياسية”.
ويعود الكتاب إلى زمن الاستعمار ليسجل أنه “رغم استغلال المستعمر للدين لإحكام قبضته على المملكة الشريفة، فإن سلطات الحماية الفرنسية مهدت لظهور حكم عصري يعتمد على الدستور والمؤسسات النيابية”، وهو توجه “بدأ يترسخ بقوة في عهد الملك الراحل الحسن الثاني”.
ويعرج المؤلف على ما عاشه المغرب من “صراعات مريرة بين تيارات الحركة الوطنية والمؤسسة الملكية”، وضعت البلاد “بين خيارين سياسيين؛ خيار المؤسسة الملكية القائم على أساس ملكية تستمد مشروعيتها من التاريخ ومن مفهوم “إمارة المؤمنين”، وخيار الحركة الوطنية القائم على أساس ملكية تستمد مشروعيتها من الخيار الديمقراطي الذي يمنح نوع من السلطة للشعب”.
ويجزم الكاتب بأن “ما قامت به الملكية المغربية بخصوص عصرنة البلاد جاء نتيجة صراعات أيديولوجية لعبت فيه الحركة الوطنية أولا دورا مهما، ثم ضغط اليسار وحركات المجتمع المدني في فترة لاحقة لتحقيق مكاسب بارزة في مجال بناء المؤسسات، احترام حقوق الإنسان وتكريس مزيد من الحريات الفردية، وإن ظل مفهوم إمارة المؤمنين يخص الملك بمرتبة فوق الدستور وفوق القوانين”.
وأدى هذا إلى “خروج المغرب من ثنايا وضع متخلف أكسب الملكية قوة فوقية تتحكم في عصب السياسة الداخلية والخارجية”، ولو أن هذه القوة “جنبت المغرب مع ذلك هيمنة الحزب الوحيد في شخص حزب الاستقلال في البداية، ثم زيغ أهداف اليسار والعسكر والتدخلات الأجنبية بعد ذلك، وهوس الإسلاميين في فترة لاحقة”.
ويدعو الباحث إلى عدم استعمال “أدوات غربية لتقييم النظام في المغرب والحكم على الملكية أو الحكومة المغربية”؛ لأنه، وفق قراءته: “يقوم الملك بدور محوري في مجال التحكيم والمحافظة على الاستقرار الروحي والسياسي والاجتماعي، ما يجنب المملكة حدة التقاطبات الأيديولوجية أو التطاحنات السياسية. وبالرجوع إلى التاريخ السياسي المغربي، نكتشف أن الحوار والتعاون بين الفرق السياسية، يمينها ويسارها، إسلامييها وعلمانييها، يحصل كلما وضعت الفرق السياسية الإيديولوجيا جانبا، وفكرت بجد في المصلحة العليا للوطن والمواطنين، وسارت وراء الحاكم الفعلي للبلاد”.