في كتاب جديد، يحضر سعيٌ إلى إعادة رسم مسار حياة مركّبة عاشها الفنان التشكيلي البارز جيلالي غرباوي، قبل رحيلٍ مأساوي إنسانيا، مذهل كتابةً، وحيدا في ليلة باردة على مقعد عمومي.
كتاب الباحثة لطيفة السرغيني “جيلالي غرباوي: رسول المنفى”، الذي ترافقه إشارة جاذبة للانتباه تتساءل “عمّن قتله؟”، لا يركن إلى الأحكام المبتسرة حول عمل غرباوي وحياته، ويرفض قصره في صعوباته النفسية و”جنونه”، مقدما، عبر أزيد من مائتي صفحة باللغة الفرنسية، سيرة غيرية مبنية على أبحاثٍ، وشهادات من عايشوه، وحديثه عن عمله، مع “محاولة للاقتراب من الشخصية في تركيبها، ومحاولة لفهم كل تفصيل من وجوده”.
وجيلالي غرباوي أحد أبرز وجوه التجريد في الفنون التشكيلية، وأحد المؤسّسين الأُوَل لـ”الحداثة الفنية” بالمغرب، ولد بجرف الملحة سنة 1930 وتوفي بباريس سنة 1971. فتحت له رسوماته، بعد طفولة صعبة، أبواب مدارس الفنون الجميلة بباريس الفرنسية، وبروما الإيطالية، وتعد أعماله اليوم ذات قيمة فنية وتاريخية ومادية عالية.
ولا يقتصر كتاب السرغيني، الصادر عن منشورات “ستوديولو”، على التطرق لحياة غرباوي، وأثر عمله ماضيا وراهنا، بل يتتبع خطوات تطوره، وتصوراته، والقطيعة التي مثلها، وتداخل الإبداع والتاريخ والواقع والإنسان؛ مع اهتمام بما كان يلهمه بصريا، ورؤيته للإبداع وبلده الأم وواقعه.
وترصد الكاتبة أخطاء في شهاداتٍ وكتابات حول الفنان، مع ذكرها أن أحداثا سقطت مع مرور الوقت في النسيان، فضلا عن ندرة الأرشيفات المتاحة حوله التي “تشهد على فقدان ذاكرة بلد، والمكان الذي يوفره لأناس يؤسسون ثقافته”.
وتنبّه الباحثة إلى أن “ظاهرة غرباوي” التي يُتحدث عنها اليوم ترتبط أكثر بـ”ثمن أعماله في المزادات”، لا بكونه “فنانا خارجا عن مألوفِ الفنانين”، وكونه “طلائعيَّ التجريد بالمغرب”.
وفي حديثها عن المسار الشخصي لغرباوي، تذكر الكاتبة أنه بدوره في حديثه عن نفسه كان “جيلالي الحميمي غائبا”.
وعكس كثير من الكتابات حول الفنان، لا تقتصر لطيفة السرغيني في تفسيرها لتميّز تجربة غرباوي على “توالي أحداث مأساوية أو تربة خصبة بالمآسي”، قائلة إن هذا “لا ينتج عنه بالضرورة عملٌ”، وتتابع: “طبعا البعد النفسي لا يمكن الغفلة عنه بإطلاق عند الحديث عن غرباوي، لكن هذا لا يبرر، مثلا، طرح الجنون كشرط مسبق، وإلا فالنظر إلى منجزه سيكون ناقصا، فيما تُنسى الكينونة والشغف الإبداعي للفنان”.
ورغم قصر حياة غرباوي إلا أنها “عصية على التركيب” بالنسبة للكتاب؛ ما يتطلب فهما لسياق عيشه “يساعد على تفادي الكليشيهات السهلة، والطرق القصيرة، والأحكام المبتسرَة”، وهو ما دفع الباحثة إلى كتابة تفرّده، ليس انطلاقا من شغفها ونظرائها به فقط، بل “انطلاقا من زمنيته، ومعاصريه، والمسافة التي فرقت بينهما”.
ويرى الكتاب في مسار غرباوي شهادة على “لحظة من تاريخ المغرب، استقلاله وتلعثماته الثقافية واللسنية، المستمرة حياتها إلى اليوم”، كما يقف عند تجربته ومنجزه بوصفهما “قطيعة، في زمن الانقسام بين التقليد والحداثة، والعلاقة مع المستعمر، والاستقلال، والتوتر الهوياتي، والنقاش الذي غذّاه هذا الانقسام”.
هذه القطيعة تمّت “عبر التجريد”، وقَبِل غرباوي رفضه جرّاءها، ومعاناته الناتجة عن هذا منذ معرضه الأول الفردي بالمغرب “دون تسوية في شغفه”.
وبعيدا عن الأدواء النفسية والذهنية، تركّز الكاتبة على موهبة غرباوي، و”شغفه للتشكيل كمحاولة للتّواجد (مِن الوَجد)، داخل الجَذريّة”.
ويسائل الكتاب، من بين ما يسائله، خلاصات حول أعمال غرباوي وتطوّرها، معيدا تركيب مسارات “الذهاب والإياب” التي تعكسها بعض لوحاته.
ومن بين الأسئلة التي يطرحها المؤلَّف: بمن نحتفي اليوم؟ هل بالرجل؟ أم بأعماله؟ أم جنونه؟ ولِمَ رفضه معاصروه بالمغرب؟ وكيف صار بطل الفن المعاصر والمؤسس الرمزي للفنّ التجريدي بالمغرب؟.
هذا عملٌ إذن، يحاول رسم صورة واضحة عن “فنان ملعون” رفضه مجتمعه، ثم احتفى به ميّتا، فنّان لم يهتم به بلده كفاية ليلقي بالا لوفاته، قبل أن يقف عند قبره بعد خمسين سنة احتفاء باكتشافه. كما يمثل المؤلَّف عملا يعيد النظر في عدد من الأحكام المنتشرة حول جيلالي غرباوي واستيعاب مساره وإبداعه.