لم يدر بخلد الباحث الزراعي كمال أبركاني، أن عودته إلى مسقط رأسه بالمغرب بعد التخرج من جامعة لافال الكندية ستكون بمثابة جرعة أمل لمئات الفلاحين الذين قهرتهم سنوات الجفاف المتوالية.
لم يكن مسار أبركاني (42 عاما) سوى تلبية لرغبة والده الذي كان فلاحا كبيرا بضواحي مدينة العروي، فهو الذي رغب بوجوده إلى جانبه بالحقل متسلحا بالعلم لتنمية قدراتهم الانتاجية.
في العام 2010، عاد أبركاني من كندا حاملا شهادة الدكتوراه بعد 12 عاما من التحصيل بالعلوم الزراعية، ليستقر به الحال بداية كما كان مخططا له في ضيعة الوالد.
بعد عامين من العمل على الإنتاج الزراعي التحق بعدة شركات أجنبية مستقرة تعمل من المغرب في المجال الفلاحي، غير أن طموحه لم يقف عند العمل موظفا في القطاع الخاص يتقاضى أجرا عند نهاية كل شهر.
بل كانت جذوة البحث لدى أبركاني متقدة وتزداد اشتعالا يوم بعد آخر كلما صادف مظهرا من مظاهر الجفاف أو أحد جوانب تأثير التغيرات المناخية على الحقول.
عام 2015، التحق الباحث بالكلية المتعددة التخصصات بمدينة الناظور التابعة لجامعة محمد الأول، وعمل أستاذا ومشرفا على ماجستير العلوم الزراعية، ليرسم طريقا جديدا في مسار مطاردة الجفاف.
العلم في مواجهة الجفاف
يقول أبركاني إن الجفاف أضحى مشكلة رئيسية في العالم، وفي منطقة البحر المتوسط خصوصا، وبالتالي يحظى البحث بالميدان الزراعي أهمية كبيرة.
ويضيف: “وضعية المياه الجوفية والسطحية في المغرب لا تلبي الحاجيات الفلاحية، وهو ما يحتم إيجاد حلول لاستخدام المياه، لأنه لا يمكن تحت أي ظرف أن يتوقف الإنتاج الزراعي”.
ويردف أنه “يعمل على العديد من المشاريع الممولة من الاتحاد الأوروبي، تستهدف التطوير الجيني لبذور العديد من أصناف المزروعات لجعلها مقاومة للجفاف وتحافظ على قدر مرتفع من الإنتاج، حتى باستخدام نصف كمية المياه التي تستهلكها الأصناف الأخرى”.
وقبل سنتين، أطلق أبركاني بمعية طلابه أولى تجاربه على 40 صنفا من بذور الباذنجان التي استقدمت من تركيا وإيطاليا، وحصل على نتائج مهمة للغاية رسمت ملامح المرحلة الزراعية المقبلة.
وأبرز أن النتائج مكنت من ضمان نفس مستوى الإنتاج لكن باقتصاد نصف كمية المياه التي كانت تستخدم لإنتاج نفس الكمية بالبذور التقليدية التي كانت تستورد وتراعى فيها الجودة والانتاج فقط.
الباذنجان بداية فقط
الواقع أن التطوير الوراثي والفرز الجيني ليس المجال الوحيد الذي يعمل عليه الباحث المغربي في إطار مشروعه الكبير الهادف لمقاومة الجفاف، بل يعمل أيضا على حقن التربة بمجموعة من المواد العضوية المستديمة للرطوبة في منطقة جذور المغروسات والخضروات التي تحتاج للمياه.
في ضيعة بسهل كرت، بضاحية مدينة العروي، أقام أبركاني تجربة عملية بمعية فريقه على حقل من الفول، وتبين من خلال المعطيات المستخلصة طوال فترة النمو أن الحقل كان بحاجة لكمية محدودة من المياه لضمان النمو السليم والإنتاج الطبيعي.
يقول أبركاني إن هذه التقنية تمكن أيضا من التقليل من استخدام المياه التي من المتوقع أن تقل أكثر مع انحسار التساقطات المطرية.
ويوضح أنه أكثر من ذلك، “مكنت هذه التقنية من تأقلم المحصول مع درجة ملوحة المياه، التي تتعدى في بعض الأحيان 6 غرامات في اللتر الواحد”.
الزرع المباشر
على بعد نحو 25 كيلومترا من حقل الفول، يقع حقل للشعير زرع بتقنية الزرع المباشر، واحدة من التقنيات التي يراهن عليها المغرب لمواجهة آثار الجفاف وارتفاع تكاليف الحرث التقليدي.
يقول أبركاني إنه رغم اتسام الجو العام بالجفاف، فإن النتائج التي حصل عليها من خلال استقراء جميع المعطيات المرتبطة بالنمو تشجع على المضي بالزرع المباشر الذي يراهن المغرب على إنجاز مليون هكتار منه في أفق عام 2030.
ويشير إلى أن الفرز الجيني سيجعل من الزرع المباشر ذو فعالية ويضمن التقليص من تكاليف الإنتاج التقليدية والأهم كمية أقل من المياه.
والزرع المباشر أو (الزراعة بلا حرث) هي طريقة لإنماء المحاصيل أو المراعي سنةً بسنة، من غير تقليب التربة بالحراثة.
ومن فوائد تقنية الزراعة بلا حرث أنها تزيد كمية الماء الذي يرشح في التربة، وتزيد احتفاظ التربة بالعناصر الغذائية، وتدويرها للعناصر الغذائية.
ويرى الباحث المغربي أن نجاح تجاربه الواعدة والتي تقدم نتائج عملية عن مستقبل الزراعة ما كان لها أن تتم لولا انخراط الفلاحين فيها، وهو انخراط نابع من رغبتهم في ابتكار حلول لأزمة الجفاف.
وأدى الجفاف في المغرب إلى انخفاض إنتاجه من الحبوب عام 2022 بنسبة 67 بالمائة إلى 3.4 ملايين طن، من بينها 1.89 مليون طن من القمح اللين، وهو المحصول الرئيسي في البلاد.
فيما بلغ متوسط واردات المغرب من القمح اللين 3 ملايين طن سنويا، على مدى العقد المنصرم.