أحيانا ننْخدِع بتبريرات واهية، فقط لأنها أتتْ على لسانِ داعية؛ فمَنْ مِنَّا لم تنطَلِ عليه مُغالَطة فقهية لم يكتشفها إلا بعد أن صدَّق نقيضَها؟ ومَنْ مِنَّا لم يسمع بمثل هذا الاستدلال “ومما يدلُّ على إعلاء الإسلام من شأن المرأة أن سورة كاملة في القرآن تحمل اسم النساء”؟!
إن المواعظ الدينية تتضمن الكثير من أمثال هذه العبارة التي تشهد على مدى استخفاف بعض الفقهاء بعقول الناس واستمالتهم من خلال السفسطة الخادعة لا الإقناع بالعقل والمنطق السليم. والمثال موضع النقد هنا يستفز المتلقِّي مهما كان رَصينا هادئا، إذ للوهلة الأولى يتبادر إلى ذهنه الردُّ المناسب؛ وبِوُسع القارئ الكريم أن يجد مِن أسماء السُّوَر ما يفنِّد هذا الطرح (المنافقون، الجن …)؛ كما أُعَوِّل على ذكائه في قصْر البحث على أسماء السور وليس أجزاء منها كما يُوهم النعتُ “كاملة”، فليس لأجزاء السور أسماء حتى يبحث عنها. ومن مغالطاتهم المرتبطة أيضا بالمرأة أن مِن دواعي زواج القاصرات في سن الطفولة سرعة نُضْج الإناث في البلاد الحارة، فهذه دعوى لم تُثْبتها أي أبحاث علمية، ولكن الناس يَتَغابَوْن حتى لا يضطروا إلى الاعتراض على الفقيه، وبذلك تبقى الممانَعة منعدمة والانقياد أعمى. ومثل هذه المغالطة قولُ بعض رجال الدين إن من حِكَم إباحة تَعدُّد الزوجات في الإسلام أن نسبة الإناث في العالَم تفُوق نسبة الذكور، فهذه الخدعة التي نشرها في القرن الماضي دُعاةٌ لم يتخلصوا من ترسُّبات الفقه الذكوري ما زالت تلقى رواجا في عصر الأنترنت الذي يضع أمامنا كل الإحصائيات التي تكذِّبها.
وقبْل استعراض نماذج شائعة أخرى من استغباء المخاطَبين عبر أقوال فاسدة ومناهج كاسدة لبعض الوُعّاظ، تعالوا نرى كيف يتم التحضير لتسطيح العقول في أوضح صُوَرِه واستجلاب المزيد من الإِمَّعة بالتلقين الجماعي.
نُودِيَ لصلاة الجمعة وغصَّ المسجد بالمصلين واعتلى المنبرَ شيخٌ بِلحية تتمدد في جميع الاتجاهات، وقد الْتَحفَ بأَردية بعضها فوق بعضٍ مشَكِّلة خلفية بيضاء لِعصا غليظة داكنة أخذَ يُداعبها بلطف وهو يستهل الخطبة بمقدمة مليئة بالسجع، يكررها كل جمعة ويقرأها بلحن يجلب النوم. لكن، ما أنْ بدأ عرْض موضوعه وانشغل بالنهي والتحريم والاستنكار والتكفير لقراءته المتطرفة والانتقائية للآراء الفقهية حتى تسارعتْ وتيرة الخطبة واشتدَّت لهجتها، فصارت العصا في يده رمزا للتسلط والغطرسة، يهزُّها هزا ويُسمع لها طرقٌ كلما علا صوته بالوعد والوعيد. وكان صاحبنا، حين تجهُّمِ وجْهِه وتهجُّمِ لسانه، يَعمد إلى إشباع حديثه بالأهوال التي ينتقيها بعناية فائقة من الحقل المعجمي لجهنم مثلما يعتني بمظهره الذي يفرض الهيبة ويكرس الاستعلاء الإيماني ويضمن الاعتبار الاجتماعي.
وجاءت خطبة الشيخ ردًّا على انتقادِ تشبُّثِ فقهاء مذهبه بالنصوص التراثية التي أثبت العلْمُ الحديثُ بُطلانَها. فشرَع يُبَرِّئ تراثَ السلف الصالح من التخلف ويتعلل بكون العِلم قاصرا والأبحاث في بداياتها والحقائق العلمية غير ثابتة، وقد كان قبل أيام -عندما كان متحمسا لإثبات ما رآه إعجازا علميا للقرآن الكريم- يتحدث عن الحقائق العلمية التي نزلت على الرسول محمد (ص) ولم تُكتشَف إلا في العصر الحديث بفضل التطور العلمي والتقدم التكنولوجي. هكذا يكون العلم التجريبي تارة متقدما وتارة متأخرا، وِفْق المنحى الذي يريد!
ولنُصرة مذهبه الذي يتعصب إليه حتى النخاع أشار إلى حتمية انقسام أمة سيدنا محمد إلى ثلاث وسبعين فِرقة كلها في النار إلا واحدة، طبعا هو على رأس فرقته الناجية! أما الآن وقد أقصى باقي الجماعات الإسلامية وحكَمَ بدخولها النار، نسِيَ أنه كغيره من المشايخ الأفاضل ما فتئ يَحُثّ على نبذ الفُرقة ويدعو إلى لَمَّ شمل المسلمين وتوحيد الأمة الإسلامية.
هكذا الشيخ كعادته، لا يجد غضاضة في الجمع بين قولين متناقضين ما دام يتوسَّم الغباءَ في مستمعيه الإمَّعة؛ وما أراه إلا مستخفا بالعقول مرة أخرى، فما عهدتُه يوما يلجم لسانه عن إطلاق مغالطاته الشوهاء من الكتب الصفراء إلى العقول الجرداء التي تستقبل الخطاب ضمن استراتيجية إقناعية قوامها الطاعة العمياء.
وأمرُّ إلى جرْد بعض المقُولات التي أتت على لسان هذا الشيخ وغيره من الدعاة في معرض دفاعهم عن الإسلام حسب منظورهم؛ ويتعلق الأمر بتصريحات يمتعض منها أهل العلم الجديرون بحمل هذا اللقب ويعتبرونها مجرد هلوسات فقهية لأهل الجهالة؛ فهي تحوي تعليلات يَظهر زيفُها من النظرة الأولى ومغالطات أكبر من أن يبتلعها السُّذَّج فضلا عن الأذكياء.
– “لقد شرَعَ الله صيامَ رمضان لنحِسَّ بجوع الفقير”.
إن ما يستأثر بالانتباه هنا هو التزام فقراء المسلمين بصيام رمضان وقد خَبَروا تأثيرات الجوع. وما يستوقف الفكر هو تلك الحكمة المزعومة من الصيام، فعلى هذا الاعتبار، يكفي الأغنياءَ صيامُ بضعة أيام للإحساس بجوع الفقير.
– “أدعوكم مِنْ علَى مِنبر رسول الله”.
الخطيب الذي لا يستحيي من أن ينسب منبره إلى رسول الله يُوهِم المصلين أن كلامه هو كلام رسول الله ومخالفته معصية لأوامر الله، وما عليهم إلى الخضوع لآرائه وترك العقل جانبا. ولا تقتصر مغالطة المَنْشَأ هذه على المنبر، فهي تتعداه إلى قبْر الرسول حيث تجد الآنَ من يذْكُر مَناقِب شيخِه قائلا بِنبْرة مُسيلة للدموع: “لقد مكَثَ بالمدينة المنورة ثلاث سنين مجاوِرا لرسول الله” متناسيا أنه أثناء حياة الرسول في المدينة كان مِمَّن حوْله من الأعراب منافقون.
وعلى ذِكر المنبر، بل عليه مباشرةً، ظهرت مغالطة من النوع الفاخر، فِعلية لا قولية، تمثلتْ في تظاهر الخطيب بالموت أثناء نطق الشهادتين. وهذا محض تمثيل له تأثيرُ مقالب الكاميرا الخفية، إلا أن الذي وقع ضحية هذا المشهد هو جمهور المصلين الذين حضروا الخطبة الهجينة، الذين قالوا متأثرين “اللهم ارزقنا حسن الخاتمة” وقال لسان حالهم من بعد ما اتّضحتْ حقيقة التمويه الجسدي “حتى كلمة التوحيد نُطِقت زورا! ما زال الكذب مستمرا بحجة ترغيب الناس في العمل للآخرة كما كان يقصد بعضُ وضاعي الحديث، فكيف نحافظ على الثقة فِيمَنْ استأمناهم على الدين فاستغفلونا؟!”.
– “كان الصحابة يتقاتلون نهارا، وفي الليل ‘يعزم’ بعضهم البعض على العشاء.”
هكذا صوَّر أحدُ الدعاة في شريط فيديو العلاقة بين الصحابة الكرام أثناء معركة صفِّين التي وقعت بين جيش علي بن أبي طالب وجيش معاوية بن أبي سفيان. يمكن أن تتعاقب الأخُوَّة والعداوة بتعاقب الليل والنهار! بهذه المفارقة التي نزلت بردا وسلاما على أشياعه شاء أن ينسب للصحابة ما يُبرهن أنهم على حق، فأساء إليهم من حيث أراد الإنصاف.
– “إنه الإسلام، شوكة في حلق العلمانية”.
يبدو أن الفقيه كان يُجَيِّش أتباعه بحماس قوِي جَرَفَه إلى هذا التشبيه المُقزِّز الذي ينطوي على حقد مطمور في ثناياه. وإنِّي لأتساءل عن مدى سلامة عقل من يعتقد بذلك وهو يقرأ منذ صغره أن الله بعث رسوله برسالة الإسلام رحمة للعالمين. هذا هو التناقض الصارخ الذي كان على الفقيه لا ألا يقع فيه فحسْب، بل أن يدعو مريديه إلى اجتنابه.
– “سبحان الله، أَتَت النار على المنزل بكامله ولم يحترق القرآن”.
ولِمَ تغُضُّ الطرْفَ يا شيخ عن الحالات الكثيرة التي احترق فيها المصحف مع أمتعة البيت؟! ولِمَ لا تذْكر لنا وقائع حرق المصحف عمْدا من طرف بعض أعداء الإسلام؟
كل المسلمين يعلمون أن الله يحفظ كتابه من التحريف والزيادة والنقصان، فلا داعي لمغالطة الانحياز التأكيدي التي تُراهن عليها في إثبات انحفاظ المصحف أي الصيغة الورقية للقرآن، وهي المغالطة المفضوحة كَحِيَل الأطفال الصغار، التي يلجأ إليها طيْفٌ واسع من المسلمين للافتخار بتحقق رؤية منامٍ أو الاغترار باستجابة دعاءٍ.
– “الله هو الذي يرفع الأسعار”.
أراد فقيهٌ أن يُقْنع مُشْتَكين من ارتفاع الأسعار فكانت هذه الفتوى؛ ودافَع العالِم عن نظريته الاقتصادية بقوله إن المُسَعِّر من أسماء الله، هو الذي يرفع الأسعار وهو الذي ينزلها سبحانه وتعالى؛ هكذا تم الاستدلال الدائري وحصلت المصادرة على المطلوب! وما عليهم إلا الصبر والدعاء لتنخفض الأثمان، وما الغلاء إلا نتيجة لكثرة ذنوب الناس. دُمتَ للإسلام ناصرا يا شيخنا!
يتبين من خلال هذه الأمثلة أن تمتُّعَ الخطيب بالسلطة الدينية يسوِّغ له تتبُّعَ استراتيجية توجيهية يستعمل فيها خطابا حجاجيا يستند إلى التأثير على مشاعر المصلين الواقعين تحت نفوذه، لإخضاعهم والتلاعب بعقلهم وحملهم على تبني آرائه، عِوض إقناعهم بالاستدلال المنطقي رغم أن الإسلام أقوى من أن يثبت بهكذا طرق وأسمى من إن يُدخل في متاهات التمويه والتعمية. فهذه السلطة الدينية التي تنِمُّ عن استغفال العامة تُبقي الفقيه على مسافة من الناس؛ وتزداد هذه المسافة كلما أمعن في استصغار عقولهم من جهة وبَوَّؤوه منزلة أعلى في هرم التَّراتُبية من جهة أخرى. ويعزز رجلُ الدين احتكارَ هذه السلطة من خلال تبادله مع مشايخ آخرين الثناء وإثبات المقامات والمراتب في ما يبدو للدهماء تواضعا مِمَّن امتطوا صهوة الدين. وهكذا ينجرف البسطاء إلى المصائد كلما شَهِد رجالُ الدين بعضُهم لبعض بأهلية التشيُّخ والإمامة؛ وهذه التزكية المتبادَلة هي بمثابة كلمةِ مرورٍ تمكِّن من تحميل مواعظ الشيوخ على ذاكرة كلِّ مَن استحْمَرُوهم ليسِيروا في ركْبهم معصوبي العينين، مثلما يكونون في متابعتهم للملاحم البطولية العجيبة ضِمْن سِيَر الصالحين وقصص المغازي.
ومن يَطَّلع على الإسرائيليات الواردة في كتب التفسير يجد أن النزعة الغرائبية هي أهم ما يميز الفقيه الذي يتفنن في استهجان عقول الناس؛ خاصة إذا تمتَّع بحِنكة في الحَبكة القصصية التي تشفي غليل جمهور شغوف بسماع الروايات الخرافية المسْهِبة في وصف الضخامة؛ فتَجِده يُحدِّث الناس عن كائنات حية عملاقة أرجلها على الأرض وقرونها في السماء السابعة وطول أعضائها يُقاس بمسيرة خمسمائة ألف سنة مشْيا على الأقدام، حتى إذا وصل به خيَالُه إلى عرش الرحمان حدد مكانَه ووزْنه وأطيطَه بالدليل والبرهان.