درس حول الأدب؛ التخلي عنه، جدوى التعليق عليه، إمكان فهمه، الأبطال المخترعين في الرواية، والأجنبي والمألوف في الآداب، ألقاه الأكاديمي والأديب عبد الفتاح كيليطو، بأكاديمية المملكة المغربية.
هذا الدرس الأول الملقى الإثنين، تحت عنوان “التخلي عن الأدب”، جزء من سلسلة محاضرات تكوينية للطلبة الدكاترة، تنظمها الأكاديمية، وينسقها الأكاديمي عبده الفيلالي الأنصاري.
ويبرمج برنامج “دكاترة الأكاديمية” لقاءات مع أكاديميين مغاربة وعرب ودوليين، حول الاتجاهات الحديثة في الأبحاث والدراسات حول تراث المسلمين، ويجمع طلبة دكاترة من عدد من الجامعات المغربية مع جامعيين من مؤسسات عليا دولية.
وعاد كيليطو في درسه إلى زمن التلمذة على يد غابرييل بونور، الذي “كان أستاذا كبيرا”، وتبين له في ما بعد أنه “أيضا أديب كبير”، متذكرا بدأه درسا بـ”لو كنت صادقا مع نفسي لما جئت لمخاطبتكم”، ليتساءل الكاتب المغربي: “ماذا قصد؟ هل أراد قول كلمة جميلة؟ هل كان هذا تواضعا؟ أم إنه أراد أن يشير إلى ألا معنى لتدريس الأدب، وأن فهمه مستحيل وغير مستحيل، أي إنه يُقرأ وليس بالضرورة أن يتم التعليق عليه؟”.
وأعاد كيليطو أمام “دكاترة الأكاديمية” التعبير ذاته: “لو كنت صادقا مع نفسي لما جئت لمخاطبتكم”، قبل أن يحصر مجال حديثه في كيفية التخلي عن الأدب، وإذا ما كان هذا المطلب ممكنا، وإن كان مسألة قديمة أم حديثة، وإذا كان من الممكن التخلي عن الكتابة أو القراءة.
وذكر الأديب ذاته أن دروسه خلال الأسبوع الجاري ستكون حول شخصيات أدبية هي: حامد بن الأيلي، الشخصية التي اخترعها سيرفانتس في دون كيخوته، وابن القارح، بطل “رسالة الغفران” لأبي العلاء المعري، وأبو زيد السروجي، بطل مقامات الحريري، وعيسى بن هشام بطل مقامات بديع الزمان الهمذاني، الذي “هو أيضا بطل رواية صدرت في بداية القرن العشرين لـ المويلحي (حديث عيسى بن هشام)، تعتبر آخر مقامة وأول رواية عربية، وهي مرور من المقامة إلى الرواية في العالم العربي”.
وعاد كيليطو إلى محاضرة دعي إلى إلقائها حول “بورخيس والمغرب”، قائلا: “هذا عنوان جميل وطريف، وشيئا ما محرج؛ لأني لأول وهلة لم أرَ ما يربط بورخيس بالمغرب ما عدا زيارتين إلى مراكش، وحسب علمي لم يكتب شيئا عنهما، ثم إنه لم يولِ اهتماما يذكر بما ألفه المغاربة باستثناء رحلة ابن بطوطة الذي تحدث عنه بصفة غير مباشرة، دون ذكر اسمه أو على الأصح تحت اسم آخر هو أبو القاسم، في قصته البحث عن ابن رشد في كتابه ‘الألف’”.
وإضافة إلى ابن رشد، شديد الارتباط بالموحدين، قال المتحدث: “لم يكن لدي ما أشير إليه في هذا الموضوع”.
و”في غمرة التنقيب”، تحدث كيليطو عن ميدان بدا له ممكن الولوج بـ”شيء من الاطمئنان، مع تغيير طفيف في العنوان إلى ‘المغرب وبورخيس’؛ فالصيغة الثانية مناسبة لأنها أكثر ثراء، وليس بين المثقفين المغاربة من لم يقرأه، أو على الأقل ينوي قراءته، والإحالة إليه منتشرة شائعة، فضلا عن تدريسه في بعض الشعب، وترجمة قسط وافر من كتبه إلى العربية، علاوة على البحوث التي اهتمت به عندنا بأكثر من لغة”.
واستدرك المتحدث قائلا: “غير أني أحجمت في اللقاء عن تناول هذا الجانب، لأسباب من بينها عدم تمكني مما أنجز عنه بالإسبانية في إطار الجامعة المغربية، وعدم إحاطتي بصفة شاملة بما خلفه من صدى في مؤلفات الأدباء المغاربة، ثم بدا لي من المناسب التركيز على علاقته بالأدب العربي، واعتبرت هذا الموضوع ملائما بحكم انتمائي، ونظرا إلى نوعية علاقاتي، كما خمنت أن هذا على الأرجح ما كان ينتظره مني من استضافوني: ‘بورخيس العربي’”.
هنا استدعى كيليطو سؤالا طرحه على نفسه وهو بصدد الإعداد: “أ أنا القارئ المحتمل لبورخيس؟ أفَكَّر في قارئ عربي عندما نشر ‘الألف’ في طبعة نهائية، يبدو لي مستبعدا ولو أن فيه إشارات إلى الأدب العربي… لقد وجهه للأرجنتينيين طبعا، وللقراء بالإسبانية، وفي مرحلة تالية نلمح توجهه للقراء الأنجلوساكسونيين، فجَدته إنجليزية، كما يتوجه إلى قارئ الفرنسية أيضا، فكثيرا ما يستشهد بكتاب فرنسيين، ومن المعلوم أن ترجمته إلى الفرنسية هي التي صيرته كاتبا عالميا، وهو ما يذكره متعجبا (…) بل كاد أن يكون مؤلفا فرانكفونيا، فأول نص كتبه كان بالفرنسية”.
وتابع كيليطو: “لم يكن يخاطب بورخيس القارئ العربي حتى وهو يتحدث عن الأدب العربي”.
“حين شرعت أول مرة في قراءة بورخيس فوجئت بمعرفته بالأدب العربي”، يقول كيليطو، مضيفا: “لقد كان حقا على علم عميق وحميمي به، فصاغ بعض نصوصه انطلاقا من مراجع تمت إليه بصلة، ويختلف بهذا عن كُتاب أمريكا الشمالية وأوروبا الذين بالكاد يذكرون ألف ليلة وليلة (…) وهو من الكتاب الكبار الذين تعاملوا بجدية مع مؤلفين عرب، ومن بينهم دانتي وسيرفانتس وخوان غويتيسولو”.
لكن، يذكر عبد الفتاح كيليطو أن بورخيس “يظهر أنه لم يتهم بالأدباء العرب المعاصرين له”، وزاد: “قد يكون سمع في آخر حياته باسم هذا الأديب أو ذاك في القرن العشرين، قبل وفاته سنة 1986، لكن اهتمامه انصب حصريا على الأدب العربي القديم، إذ أفاض في الحديث عن ألف ليلة وليلة، وكتب عن ابن رشد، والتفت للمعلقات… وحذا حذو المستشرقين في زمنه، أو قبله بقليل، إرنست رينان، ريتشارد بيرتون، وأسين بلاسيوس؛ وقد تركزت عنايتهم بدرجةٍ أولى على أمهات الكتب العربية”.
وزاد الأديب المغربي متحدثا عن بورخيس: “اندهشت من اطلاعه على الأدب العربي، فأقبلت على ما كتب بانشراح وارتياح، وبطبيعة الحال يتضاعف اهتمامي عندما يذكر اسم هذا المؤلف أو ذاك”.
وعبر كيليطو عن تصور لقراءات مؤلّف جديد: “توق لاكتشاف ما لم يكن يعرفه، شوق مصحوب بقلق غامض، لقاء مع عالم غريب، لا يستطيع أن يتنبأ بما سيسفر التنقل في أرجائه، تظهر أمامه طرق مختلفة، ويقترن تخوفه من الضياع برغبة في أن يجد بعض ما يعرف، أن يطمئن شيئا ما؛ لذا يترقب أدنى علامة على ثقافته وهو يقرأ، يترقب أدنى علامة على ما عاشه وجربه”، ويواصل: “يكتشف القارئ العربي نفسه، مثلا، في إحالات بورخيس على الأدب العربي، على عكس القارئ غير العربي الذي لا توحي له بشيء فتظل غامضة تحيل على شرق بعيد. حاولت عقد حوار مع بورخيس، ولا أخفي أني شعرت بفخر واعتزاز: لقد تم الاعتراف بي، على الرغم من أنه لم يكن يخاطبني، فكأن ما يجمعنا داخل في باب القربى والنسب، إنه ليس غريبا، أو إن غرابته في أُلْفَتِه”.
وسجل المتحدث ذاته أن ما لا ينساه في “الكتب الأجنبية”، التي تساءل عن معنى أجنبيتها، “هو ما يرد فيها عن الأدب العربي”، دون أن يعني هذا “أني لا أهتم بما هو خارج هذه الإشارات، لكن هذا ما أحتفظ بذكراه على وجه الخصوص؛ مثل الخارج من بلاده ليسمع صدفة كلاما بلغته”.
هذه التجربة حضرت في قراءة كيليطو لدانتي، وسيرفانتس في “دون كيخوته”، الرواية “التي اطلع عليها قبل قراءتها بالكامل”، ولم يطقها لأنه، وفق تعبيره؛ “قارئ ساذج”، أي إن “خيبات الأمل المتتالية لدون كيخوته تؤلمني (…) يصر الجميع على الاستهزاء به والضحك عليه، وشعرت بأن فشله المتوالي فشل الأدب، وهذا ما لم أكن لأطيقه، أن يكون بون شاسع بين الأدب والحياة، شيء غير محتمل في ذلك الوقت، وربما حتى اليوم”.
لا أحد من القراء، حسب كيليطو، يتماهى مع دون كيخوته؛ “ومن سيتماهى مع مجنون لا يريد الإصغاء لصوت العقل؟ يتمنى القارئ عملا بطوليا، لكن هذا لا يحدث ولا مرة واحدة”.
دون كيخوته انكب في حياته على قراءة كتب الفروسية، إلى حد قراءتها من المساء إلى الصباح ومن الصباح إلى المساء، إلى أن قادته قلة النوم وكثرة القراءة إلى جفاف الدماغ والمس بطيف جِنّة؛ ففقد صوابه، واستبدت به فكرة أنه من اللائق والضروري، لتألق نجمه وخدمة وطنه، أن يصبح فارسا جوالا، ويسعى في مناكب البلاد بفرسه وسلاحه، يمارس جميع ما قرأ أن الفرسان الجوالين يمارسونه، فيصحح الأخطاء ويتعرض للأخطار، حتى ينال بمجابهتها ذكرى لا تنمحي أبدا.
دون كيخوته، بقراءة كيليطو، “أبدع لنفسه عالما خياليا، استقر فيه ولم يعد يرى غيره، يتعامل بسذاجة مع الأدب، هو القارئ الحقيقي لأنه يتماهى مع ما يقرأ، تسعفه ذاكرته في كل الأحوال بنموذج نبيل في روايات الفروسية”.
ووصف القارئ كتاب سيرفانتس بكونه مبنيا بكامله على “مشروع ترجمة ليس من الممكن تطبيقه”، أي “ترجمة الأدب إلى واقعٍ”.
ويقترب كيليطو من عنوان سلسلة محاضراته، في معرض حديثه عن “دون كيشوت”: “قرأت (…) الرواية بتمعن متسائلا عما يمكن أن أقوله بصددها، ما يعنيني فيها (…) قراءة الروايات محاطة بمخاطر كثيرة، الجنون في الحالة القصوى، ويتعين بالتالي إتلافها والتخلص منها أو على الأقل تنحيتها جانبها وإخفاؤها؛ وهو ما سعى إليه صديقا دون كيخوته القس ونيكولا الحلاق حين قاما بتواطؤ مع ابنة أخته وخادمته بإحراق مكتبته وهو نائم، في فصل مثير للغاية هو السادس من الجزء الأول؛ كانا يودان إنقاذَه وتخليصه من الجنون، لكن الغريب في الأمر، والمفارقة، أنهما قاما بالعملية بينما هما قارئان شغوفان للروايات، وعالِمان بدقائق تفاصيلها”.
في الواقع، أضاف كيليطو: “أحرقا فقط الروايات التي بدت لهما ضعيفة أدبيا؛ أي إنهما مارسا نقدا أدبيا شديدا؛ أما الروايات الجيدة فاحتفظا بها جانبا وأودعاها بعيدا عن دون كيخوته. وهكذا فإن أشد أعداء الروايات هم المولعون بها ومحبو الحديث عنها”.
في عالم سيرفانتس لا يكاد أحد يسلم من تأثير الأدب، وهو ما اتضح لكيليطو القارئ أنه “أمر عام وشامل”، مستحضرا موضوع ذمّ الأدب في المقامات ولو أن “أكثر الكارهين له هم المولعون به، وهم من يساهمون في استمراره، ولنفكر لحظة في التوحيدي”.
ويقف كيليطو عند “السيد حامد بن الأيلي” الذي نسب إليهِ سيرفانتس أصل “دون كيخوته”، قائلا: “لم يتخلّ سيرفانتس حقا عن اسمه بل ترجمه للسان العربي، احتفظ به بتخليه عنه، بتقمص صورة مؤرخ عربي تصرف بشكل ما كبطله (…) في نسبة خيالية، ولعبة سردية”، قبل أن يتحدث عن بحثه “بحماقة في التراث العربي عن حامد الأيلي” الذي رأى فيه “دخولا في اللعبة”، بحثا عن “أن يكون في الأدب العربي مثيل لرواية سيرفانتس أو جنون دون كيخوته”.
وعاد عبد الفتاح كيليطو لـ”تصحيح ما أورده في كتابه عن أبي العلاء المعري”، عندما ذكر أن “رسالة الغفران” لم تخلف “صدى يذكر في الأدب العربي”، حيث قال: “هذا ليس صحيحا، فلقد استلهمها على الأقل مؤلف عاش في القرن السادس الهجري هو الوهراني، الذي تميز بتصنيف منامات أشهرها المسماة “المنامة الكبرى”، وهو كتاب ببنية حُلم، كله وصف لحُلم، مع إشارة جلية لرسالة الغفران، وأصداء لمقامات الحريري، وحكاية أبي القاسم البغدادي، المنسوب أحيانا للتوحيدي، ولبعض شعراء يتيمة الدهر للصعاليك، ولاسيما ابن الحجاج وابن سُكّرة”.
هذا النص، حسب كيليطو؛ “غريب وعبثي، بل يمكن نعته بالسريالي، وفي ذات الوقت خاضع لمنطق شبيه بما يحدث في الأحلام: عندما نرى أنفسنا في موقف شنيع ورهيب ونتساءل، في الحلم، هل نحن في حلم؟”.