منذ توليه مقاليد الحكم وأمير المؤمنين الملك محمد السادس يبذل قصار جهوده في سبيل النهوض بأوضاع المواطنات والمواطنين، ويحرص على تعزيز ركائز الدولة المغربية، عبر إطلاق المبادرات وفتح الأوراش الإصلاحية، وإلا ما كان ليتحدى وعكته الصحية ويترأس يوم الإثنين 23 دجنبر 2024 جلسة عمل بالقصر الملكي بالدار البيضاء للاطلاع على مقترحات تعديل مدونة الأسرة، التي سبق أن وجه بشأنها رسالة سامية إلى رئيس الحكومة عزيز أخنوش في شتنبر 2023، تفعيلا للقرار السامي الذي أعلن عنه في خطاب العرش لسنة 2022، وتجسيدا للعناية الكريمة التي ما انفك يوليها للنهوض بقضايا المرأة والأسرة تحديدا، باعتبارها النواة الأساسية لبناء مجتمع متماسك ومتوازن…
وهو الورش الوطني الذي فتح بناء على ما تم تسجيله من قبل مجموعة من الفعاليات السياسية والحقوقية والمنظمات النسائية وغيرها حول ما شاب بنود مدونة الأسرة من عوائق، لم تفتأ تطرح مشاكل جمة على مستوى الممارسة، وتحول دون التطبيق السليم وتحقيق الأهداف المرجوة في حماية الأسرة، منذ دخولها حيز التنفيذ سنة 2004، مما أدى إلى ارتفاع الأصوات المطالبة بإعادة النظر في البنود المثيرة للجدل، وإجراء تعديلات بخصوصها.
بيد أنه بمجرد ما كشفت وسائل الإعلام الوطنية عن جزء من مقترحات الهيئة المكلفة بمراجعتها، حتى انقسم المجتمع المغربي بين مؤيد ورافض، وعجت شبكات التواصل الاجتماعي بالتأويلات والمغالطات، ليس فقط من طرف الفئات الاجتماعية ذات المستوى التعليمي البسيط، بل أيضا من قبل بعض الفقهاء وغيرهم من “المتعلمين”، الذين سارعوا إلى إطلاق حملة مضادة، لما يعتقدون أنه هجوم على حقوق الرجل وتشجيع الشباب على حياة العزوبية.
ففي تعليقه على هذه التعديلات، قال الفقيه المقاصدي أحمد الريسوني إن “المشكل الذي سيترتب عن هذا الاجتهاد الرسمي، هو تعرض الرجل للتضييق والضغط قبل الزواج، وأثناءه وفيما بعد الطلاق والممات أيضا، وأن الآثار السلبية ستتفاقم على الأسرة والمجتمع وعلى المرأة، ومنها الدفع بالشباب إلى العزوف عن الزواج مقابل التسهيلات والإغراءات المريحة، المتاحة لحياة العزوبة و”العلاقات الحرة”…” وأضاف محذرا من: “الحل الهندوسي، الذي تضطر فيه المرأة إلى دفع مهر كبير للرجل حتى يقبل الزواج منها !!”
وقال الشيخ محمد الفيزازي رئيس “الجمعية المغربية للسلام والبلاغ” معلقا على تلك المقترحات: “هنيئا للرجال بنعمة العزوبة، وهنيئا للعوانس بعنوستهن، فلن يجرؤ أحد على الزواج بعد اليوم” وزاد: “وهنيئا أكثر للنسويات والحداثيين والتقدميين على هذا النصر المبين” متسائلا: “من يجرؤ من المتزوجين على الطلاق أصلا حتى إن دعا الداعي واقتضى الحال؟ وقال بخصوص الحقوق الجديدة: “هنيئا للمطلقة بالحضانة المستمرة، وبالنفقة ولو بعد زواجها برجل آخر. وهنيئا لها ببيت زوجها الذي لا يقسم مع التركة بعد وفاة الزوج، وهنيئا لها بحمايتها من الضرات، لا ضرة بعد اليوم إلا في أحوال خاصة”
وهي التعليقات التي بالإضافة إلى ما أثارت من ردود أفعال غاضبة وتعليقات ساخرة، يمكن أن تشعل نيران الفتنة في المجتمع، علما أن مدونة الأسرة ليست قرآنا منزلا، وأن التعديلات المقترحة لن تعتمد بشكل نهائي ما لم يصادق عليها المجلس العلمي الأعلى والبرلمان، بعد عرضها على أنظار أمير المؤمنين، الذي شدد على ضرورة الالتزام بالضوابط المحددة سلفا، ويأتي في مقدمتها ما أشار إليه في خطابه السامي بمناسبة الذكرى 23 لتربعه على العرش، حيث قال “لن أحرم ما أحل الله ولن أحل ما حرم الله”.
بينما هناك في المقابل هيئات سياسية وحقوقية ودينية عبرت عن ارتياحها واعتزازها بالمقاربة الشمولية، التي ارتكزت على حسن الإنصات لنبض المجتمع والتشاور المثمر مع مختلف القوى السياسية والحقوقية، وكرست احترام المرجعية والثوابت الدينية والدستورية والوطنية، مما يجسد النضج السياسي الذي بلغته بلادنا في معالجة أهم القضايا المجتمعية، بما يعكس قيم الديمقراطية والحداثة، مثمنة ما تضمنته التعديلات المقترحة من مكتسبات جديدة، تعكس التوجيهات الملكية وتهدف إلى تجاوز الاختلالات المسطرية والإجراءات التي تم تسجيلها منذ الشروع في تطبيق المدونة، فضلا عن أنها تستجيب لتطلعات الأسرة المغربية وتعزز قيم العدل والإنصاف داخلها.
ولنا أن نتساءل هنا كيف يمكن الاعتراض على هذه التعديلات التي حملت معها عدة إيجابيات، كمراجعة قيمة النفقة التي لم تعد كافية لسد حاجيات الأطفال على مستوى تكاليف الحياة اليومية. تحديد أهلية الزواج في سن 18 سنة ومنع زواج القاصرات دون سن 17 سنة، تعزيز الحماية القانونية للنساء باشتراط موافقة الزوجة عند رغبة الزوج في التعدد، إقرار الحضانة كحق مشترك بين الزوجين، حماية حقوق الأطفال في السكنى، إلغاء التعصيب في حال ترك البنات دون الأبناء، تحديث الإطار القانوني للوصية والهبة بما يشمل المساواة بين الأبناء في الوصية الواجبة، مراجعة الطلاق والتطليق عبر تقليص الأنواع وتحسين آجال البت، ثم تعزيز حقوق المغاربة المقيمين بالخارج من خلال تبسيط الإجراءات دون الإلزام بشاهدين مسلمين…؟
إن ما يحز في النفس ليس فقط هو إقدام بعض “الجهلة” على الخوض في هكذا مواضيع أكبر منهم، أو أولئك الذين ينساقون خلف الدعايات والحملات المغرضة، بل هم أولئك الشيوخ والفقهاء ومعهم بعض مناهضي الإصلاح، الذين لا يدعون أي فرصة تمر دون استغلالها في محاولة تصفية حساباتهم الضيقة مع الدولة. لذا يتعين علينا جميعا الاستمرار في الالتفاف وراء أمير المؤمنين محمد السادس فيما يتخذه من خطوات في اتجاه توطيد أركان الأسرة وغيرها من القضايا المجتمعية ذات الأهمية البالغة.