صدر بتاريخ 3 غشت 2022، منشور رئيس الحكومة رقم 16/2022 بشأن الرسالة التأطيرية لإعداد قانون المالية لعام 2023.
فعلى مستوى الشكل يلاحظ أن المذكرة تتميز كما بالطول وهذه سابقة في تاريخ الرسائل التوجيهية في إعداد قوانين المالية (14 صفحة بدون احتساب المرفقات المتعلقة بالجدول الزمني المزمع عقده مع مديرية الميزانية بوزارة الاقتصاد والمالية)، ويغلب عليها عامة عدم الوضوح والدقة والتركيز والأسلوب الإنشائي والحشو والركاكة. أما على مستوى المضمون فإن الأولويات الأربع في مشروع قانون المالية لسنة 2023 فهي كالتالي:
– تعزيز أسس الدولة الاجتماعية؛
– إنعاش الاقتصاد الوطني عبر دعم الاستثمار
– تكريس العدالة المجالية؛
– استعادة الهوامش المالية لضمان استدامة الإصلاحات.
وعلى الرغم من أهمية الأولويات المسطرة في المذكرة، فإنها على مستوى الجوهر تتسم بعدم وضوح الرؤية وضبابية رصد التوقعات الاستراتيجية وسيناريوهات تحليل الظرفية وتطور المستقبل، فضلا عن عدم تقديمه لبعض الإحصائيات التقليدية الضرورية في مجال التوقع والفرضيات المعتمدة الجوهرية الضرورية، كتقدير نسبة النمو السنوية وعجز الميزانية من الناتج الوطني الإجمالي؛ وسعر غاز البوطان للطن؛ ومحصول الحبوب؛ وخلق فرص الشغل العامة التي يطمح اليها المشروع؛ علاوة على غياب الإبداع عند الحكومة في إيجاد حلول عملية لتجاوز تداعيات الأزمة، بحيث يلاحظ أن البرامج المتوقعة هي برامج ملكية بامتياز، ومن جهة أخرى يلاحظ أيضا المذكرة التأطيرية لرئيس الحكومة لا تخلو بدورها من أيديولوجية رأس المال وعقيدة الصدمة في صعود رأسمالية الكوارث والاحتكار كما جاء في الكتاب الرائع للإعلامية الكندية نعومي كلاين.
ويمكن في هذا الصدد من خلال قراءة أولية للمذكرة تسجيل الملاحظات الجوهرية الأولية الآتية:
– الاحتماء بفزاعة الأزمات المتتالية العالمية (كورونا، الحرب الروسية الأوكرانية، اضطراب السوق العالمي)، في تبرير وتمرير سياسة التقشف وتجميد الأجور، لذلك يبدو أن مشروع قانون المالية لعام 2023 هو قانون تقشف وأزمة بامتياز في صيرورة إحداث الصدمة عند المتتبع ودفعه بالرضا بما سيكون على أرض الواقع، ومن تناقضات الرسالة ادعاء المنشور تحقيق الاقتصاد الوطني نهاية سنة 2021، معدل نمو يقدر في %7,9وهي نسبة في اعتقادنا مبالغ فيها اعتبارا لعدم تأثيرها على عيش المواطنين الذين ما فتئوا يشتكون من هول الأوضاع الاقتصادية وارتفاع أسعار مواد العيش والمحروقات منذ أواخر عام 2021، ولا أحد يشك اليوم في مظاهر مديونية المواطنين والطبقات المتوسطة والفقيرة وتراكم ديون الجائحة على المقاولات الصغرى جدا والمتوسطة: إغلاق 25000 مقاولة بشكل نهائي منذ نهاية 2020 إضافة إلى أن 5000 مقاولة أوصدت أبوابها قبل 2020، في غياب استراتيجية متجانسة، شاملة ومنصفة للإنقاذ؛
– هيمنة هاجس التوازنات الماكرواقتصادية على التوازنات الاجتماعية، وروتينية الأولويات المسطرة والتي تكرر منذ عدة سنوات في قانون المالية، حيث كان الحديث عن مثلنة الدولة والحكامة ودعم الاستثمار واستئناف الأنشطة….
– غلبة طابع الاستهلاك في مشروع الميزانية بدل توجه إلى الاستثمار وخلق الثروة وتقاسمها والشغل ومكافحة الفقر وتعزيز الحركية الاجتماعية في البلاد، ولذلك يلاحظ إهمال الرسالة التأطيرية التطرق لمضامين القانون التنظيمي للمالية الذي ينص على النجاعة والأداء في تحقيق البرامج التنموية. لذلك يشدد المنشور على حصر مقترحات النفقات في الاحتياجات الضرورية لنفقات الموظفين؛ وترشيد استعمال الماء ونفقات استهلاك الكهرباء؛ والتقليص لأقصى حد من نفقات النقل والتنقل ونفقات الاستقبال وتنظيم الحفلات والمؤتمرات والندوات وكذا نفقات الدراسات، كما يتفادى الكلام عن كلفة حظيرة السيارات أو منع اقتناء السيارات الجديدة والفارهة. أما في ما يخص نفقات الاستثمار فتشير المذكرة إلى إعطاء الأولوية للمشاريع في طور الإنجاز.
غياب إجراءات ملموسة وجريئة لمكافحة آثار تداعيات الجائحة والحرب الروسية الأوكرانية على عيش المواطنين، مثل تثمين الأجور وتحسين القدرات الشرائية للمواطنين والطبقات الهشة والمتوسطة، التي تكتوي بارتفاع الأسعار الناجمة عن المضاربات وعجز مؤسسات وأجهزة الحكامة على القيام بدورها في إخبار المواطنين حول فاتورة المحروقات والاحتكار واقتصاد الريع وتضريب الثروات؛
اعتماد بعض الإجراءات وفق مقاربة بعيدة نوعا ما، ربحا للوقت، في أفق 2025 أو 2030 بدل التركيز على ما يمكن تحقيقه في الأمد القصير خلال عام 2023 والذي جاءت المذكرة لتأطيره وتوجيهه، لا سيما في مجال العرض الصحي والتعويض عن فقدان الشغل (الذي تم تأجيله في أفق 2025) ومديونية المقاولات الصغرى والمتوسطة وإفلاس الشركات؛
عدم الاستفادة من دروس جائحة كوفيد-19 وعدم إيلاء أي أهمية تذكر في مجال البحث العلمي والإبداع والابتكار وامتلاك التكنولوجيا والتأسيس لمجتمع المعرفة، على غرار ما هو معمول به في البلدان المتقدمة عندما يتصدر اقتصاد المعرفة الأولوية في برامج قوانين المالية، وهي التي تتنافس للظفر به وتبوئه مكانة الصدارة في مشاريع قوانين المالية في صيرورة بناء مجتمع المعرفة.
وخلاصة القول، إن ما يميز المذكرة التأطيرية لمشروع قانون المالية لعام 2023 هو التجاؤها إلى أسلوب التسويف بدل اليقين.
لذلك ينبغي في اعتقادي أن تدرس المذكرة رئيس الحكومة كظاهرة سوسيولوجية أو سيميائية بامتياز، قبل دراستها كوثيقة ديمقراطية تتوخى الشفافية والمساءلة والالتزام وربط المسؤولية بالمحاسبة عند اعترافها بمدى ارتفاع سقف تطلعات وانتظارات المواطنين، لوضع أسس التضامن الاجتماعي الحقيقي والانتقال النوعي والهيكلي على المستوى الاقتصادي والاجتماعي والبيئي والحماية الاجتماعية الشاملة، التي تنهض بها الدولة من أجل “ربح رهان العدالة الاجتماعية والمجالية، لاستكمال بناء مغرب الأمل والمساواة للجميع، مغرب لا مكان فيه للتفاوتات الصارخة ولا التصرفات المحبطة، ولا لمظاهر الريع وإهدار الوقت والطاقات (ص 3) أمام عدم قدرة الحكومة على مواجهة كل التحديات الداخلية والخارجية فهي عامة ما تلتجئ إلى أسباب التسويف أو التخويف.
والسميولوجية تشتق من كلمة يونانيةSémion بمعنى العلامة و Logosبمعنى الخطاب أو العلم ولذلك تصبح كلمة Sémiologie علم العلامات أو الدلالات السيميائية أو علم الإشارات، ويمتد إلى مختلف أنواع العلامات اللسانية والخطابية ليقف على مدلولها ومدى قدرتها على الاستجابة لتطلعات المجتمع. ومما لا شك فيه أن استعمال “سوف والسين” في الخطاب وتحليل مدى حكمة وفصل الخطاب سيدلنا، لا ريب، على نتائج ثمينة في فهم معيقات الخطاب وإيديولوجيته.
ومن جهة أخرى، تبرز المذكرة التوجيهية لرئيس الحكومة مدى الميل إلى استعمال حرف السين 41 مرة، توزعت على التسويف في عرض البرامج المتوقعة في الأفعال الآتية: “ستعمل الحكومة وستحرص وستواصل وستنكب وستعمد وستتولى”.
وعامة، فإن استعمال حرف السين في الخطب عند السياسيين هو السعي إلى تنفيس الخناق، يعني توسيعه ويقال نَفَّسْتُ الخناق، أي: وسَّعتُه. والمقصود من استعمال حرف السين وهو بالتنفيس والتَّوسيع يعني تأخير الفعل إلى المستقبل، وعدم التضييق في الحال؛ فالتسويف معناه: التأخير، من قولك: سوف أفعلُ، والاستقبال معناه: تأجيل فعل معين من الحال إلى المستقبل الأرحب. فقولك: سَوْفَ أُكْرِمُكَ، أشدُّ تراخيًا وبعدًا في المستقبل من قولك: سَأُكْرِمُكَ، وسَأُكْرِمُكَ أقرب من زمن وجودك من سوف أُكرمك، وإذا أردتَ تخليص الفعل للاستقبال ورفع احتمال الحالية فيه، أدخلتَ عليه السين أو سوف. وهذا ما نلمسه من خلال قراءتنا للرسالة التوجيهية لرئيس الحكومة في إعداد مشروع قانون المالية لعام 2023.