رغم الأدوار الرئيسية التي لعبتها البادية المغربية في المحطات الكبرى للمملكة، فإن المعرفة بخباياها لا تزال ضئيلة، وهو ما حاول المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية المساهمة في تداركه، عبر كتاب من منشوراته بعنوان “البادية المغربية: الذاكرة والتحولات”، يتضمن مساهمات ثلة من الباحثين من مختلف المشارب العلمية ذات الصلة.
ويرى المحفوظ أسمهري، الباحث بمركز الدراسات التاريخية والبيئية بالمعهد الملكي للثقافة الأمازيغية، أن المعرفة ببادية المغرب القديم “تظل، عموما، سطحية ومتناثرة، وجلها قدمته لنا أبحاث تركزت على جزء ضيق من المجال المغربي، وتهم الاستغلال الفلاحي والسكن القروي في العهد الروماني”.
وأردف أن المجال الخلفي للمدن القديمة، خاصة وليلي وباديتها، هي التي نالت حظا أوفر من البحث الأركيولوجي ومن التحريات الأثرية، بينما تبقى وضعية البوادي بالمناطق الجبلية وبالهوامش الصحراوية غامضة، داعيا إلى تعميق البحث في هذا المجال، وتجاوز التركيز على المجال الجغرافي الذي اهتم به البحث الأثري الكولونيالي.
فيما اعتبرت حنان حمودة، أستاذة التعليم العالي بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، أن التدخل الأجنبي كانت له عواقب كثيرة ومؤثرة على الأفراد والجماعات بالبوادي المغربية، مبرزة أن الاستعمار “ساهم في حدوث تغييرات خطيرة قلبت الهياكل الاجتماعية رأسا على عقب”.
وأوضحت أن من عواقب التدخل الأجنبي تثبيته لـ”الحكم الفردي الاستبدادي للحكام”، و”اختفاء المظاهر الجماعية الليبرالية”، إضافة إلى قتل الكثير من سكان البوادي وفقدان ممتلكاتهم، دون أن يستفيدوا بالشكل المطلوب من التنمية خلال مرحلة الاستعمار وبعده.
واتسم تدخل الدولة المغربية بعد الاستقلال، بخصوص الإجراءات الكفيلة بتنمية البادية، تردف الباحثة، بالمد والجزر، مشيرة إلى أن العقدين الأخيرين شهدا منجزات تنموية بالعديد من البوادي المغربية، “الأمر الذي يفرض تكاثف جهود الجميع من أجل تجاوز مخلفات المرحلة الاستعمارية، وما تلا ذلك من تهميش خلال العقود الأولى من مرحلة الاستقلال”.
ودعت لطيفة لحسيني، عضو المندوبية السامية لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير، إلى التوجه نحو تأسيس تاريخ نقدي/ إشكالي، يبحث في المشكلات الراهنة للمجتمع، بتوظيف الباحث التاريخي حول البادية من أجل توجيه المشاريع التنموية الموجهة إلى المجال.
وأكدت أن فهم المجتمع الحالي لن يتأتى دون الرجوع إلى تاريخ تنظيماته القبلية، ومحاولة فهمها واحتوائها، في سبيل النهوض بالمجتمع، عبر توجيه الباحثين نحو دراسة البُنى الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والذهنية، عوض الاهتمام بالتاريخ السياسي والعسكري.
الوافي نوحي، الباحث بمركز الدراسات التاريخية والبيئية بالمعهد الملكي للثقافة الأمازيغية، الذي تناول في مساهمته مسألة “أسلمة المغرب الأقصى وتعريبه”، اعتبر أن البادية بمكوناتها الطبيعية المختلفة كان لها حضور في “مسلسل أسلمة المغرب الأقصى وتعريبه”.
وأشار إلى أن البادية كان لها ذكر كبير أثناء وصول الإسلام إلى البلاد، خلال عملية الفتح التي كانت متمركزة في الجبال، وخاصة الأطلس الكبير، وبعض المناطق السهلية، مبرزا أن البادية كان لها أيضا دور في رسم الخريطة المذهبية للمغرب، حيث استقبلت كثيرا من المذاهب والتيارات، وتركزت بها بشكل أكبر.
وأردف أن الأمر نفسه ينطبق على موضوع التعريب، “الذي ساهمت القبائل العربية المستقرة بالسهول في تبلوره، في احتكاك مع السكان بحكم المجاورة”.
في السياق ذاته، استعرض مراد جدي، أستاذ بمركز تكوين مفتشي التعليم بالرباط، التحولات الدينية بالبادية المغربية، مركزا على منطقة الريف، حيث خلص إلى أن التحولات التي شهدها المجال الديني في المنطقة “أفرزت منذ نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات من القرن الماضي بروز جيل جديد من الشباب المتدين من خارج المؤسسة الدينية الرسمية، ومتمرد على التقاليد والممارسات الإسلامية المحلية وعلاقة الدين بالنظام السياسي للدولة”.
وأبرز أن عوامل التدخل الخارجي في المجتمع القروي بالريف كان أثرها عميقا في التحولات التي عرفها الحقل الديني المحلي ونظامه السوسيو ثقافي، خاصة تنامي ظاهرة الهجرة الدولية لدى أهالي المنطقة، وتأثيرات العولمة وموجة التحديث بفعل انتشار وسائط الإعلام والتكنولوجيا وتعدد مصادر المعرفة.
وفي غمرة التحولات التي شهدها الحقل الديني في منطقة الريف، يضيف الباحث، “تراجعت مكانة الفاعل الديني التقليدي وفقد رأسماله الديني بريقه في سوق الممتلكات الرمزية، وتعرض دوره في التأطير والتوجيه الديني للتهميش أمام توسع نفوذ الفاعل الديني السياسي، سواء من قبل السلطة التي سعت إلى مراقبته والتحجيز عليه، أو الفاعلين الدينيين الجدد، مما أدخله في حالة اغتراب اجتماعي أدت به إلى حالة اغتراب ديني ورمزي”.