قال المنتصر السويني، الباحث في العلوم السياسية والمالية العامة، إن “المتتبعين للشأن العام بالمغرب يلاحظون عجز الفريق الحكومي عن كبح جنون السوق، وهذا العجز في حد ذاته رسالة سلبية تجاه الشارع، حيث يعتقد هذا الأخير أنه تُرك وحيدا في مواجهة جنون السوق”.
وتطرق السويني، في مقال له بعنوان “الحكومة في مواجهة الأغلبية الصامتة”، إلى مجموعة من المحاور حول الموضوع، من بينها “جنون السوق وغياب الحكومة السياسية”، و”حزب رئيس الحكومة والعجز عن ترسيخ شعار ‘من أجل غرامشي اليميني’”، و”تعزيز موقع رئيس الحكومة في الدستور 2011 كان يعني كذلك تعزيزا لموقع الرفض الكبير الذي يقابله”، و”الحكومة وفتح قنوات التواصل مع الأغلبية الصامتة”، و”المغرب من المفروض أن يبحث عن طريق ثالث بديل عن إستراتيجية ‘صم الآذان’ وإستراتيجية ‘ارحل’”، و”الحكومة وضرورة ترسيخ ما يطلق عليه ‘الثرثرة الديمقراطية’”.
وختم المنتصر السويني مقاله بالإشارة إلى أنه “إذا كانت بعض الأحزاب تفهم الديمقراطية فقط في كونها ديمقراطية تفويضية، فإن غالبية الشعب المصوت يفهم الديمقراطية باعتبارها ديمقراطية النتائج، أي ما هو الأثر الذي تتركه هذه الديمقراطية على حياته اليومية”.
هذا نص المقال:
يلاحظ المتتبعون للشأن العام بالمغرب عجز الفريق الحكومي عن كبح جنون السوق؛ هذا العجز هو في حد ذاته رسالة سلبية تجاه الشارع، الذي يعتقد أنه ترك وحيدا في مواجهة جنون السوق.
الجمود الحكومي في مواجهة جنون السوق يدفع الباحثين إلى الاعتقاد أن المغرب انتقل من مرحلة التأطير الثنائي (المؤسسات ‘جون جاك روسو’– السوق ‘آدم سميت’)، إلى مرحلة التأطير الأحادي للسوق (أي إلى العمل من داخل مظلة الاقتصادي ميلتون فريدمان الذي أكد أنه ليس هناك مجال خارج عن سلطة السوق).
الخضوع لجنون السوق يفتح الباب على مصراعيه أمام فوضى مدمرة بين جنون الشارع (شعار ارحل بكل تداعياته الدستورية) في مواجهة جنون السوق (الارتفاع الجنوني للأسعار).
المغرب لا يجد نفسه فقط في مواجهة جنون السوق، بل وكذلك في مواجهة جار له أطماع توسعية، وبالتالي أمام خطر الصراع العسكري مع الجار الجزائري، ما يحتم على العقل الحكومي بالمغرب فتح قنوات التواصل وتعزيز صمود الجبهة الداخلية لمواجهة ثنائية (جنون السوق، ولا قدر الله جنون الجار المزهو بارتفاع عائدات النفط).
وهنا نستحضر ما قاله الرئيس الفرنسي السابق-رايمونبوانكاريه- الذي حكم فرنسا في مرحلة الحرب العالمية الأولى، عندما سئل عن إمكانية صمود الجيش الفرنسي، إذ قال قولته الشهيرة “الجيش الفرنسي سيصمد إذا صمد من هم وراء الجيش الفرنسي”، وكان يعني صمود الصف الثاني، المتمثل في المجتمع.
1- جنون السوق وغياب الحكومة السياسية
أمام جنون السوق وحتى لا يضطر المغرب إلى مواجهة الثنائية الخطيرة المكونة من (جنون السوق+ جنون الشارع)، انتظر المغاربة أن يحجز (الفريق الحكومي+ الدواوين الوزارية) الصف الأول في التوضيح والتبرير واقتراح (في التجارب الدولية الدواوين الوزارية هي التي توضح وهي التي تبدع وهي التي تقترح وتنسق في ما بينها لتفعيل الإصلاحات الكبرى) الحلول والإقناع. ولكن للأسف غابت الحكومة عن المربع السياسي، هذا الغياب جعل المغاربة يطرحون السؤال الصعب، أين اختفى الثنائي المكون من (الوزراء + الدواوين الوزارية)؟ أين اختفى مربع (السياسة + الأفكار)؟.
العقل السياسي المغربي كان مقتنعا بأن السياسة هي مهنة، لكنها ليست مهنة كباقي المهن، بل مهنة لها قواعد خاصة، ولذلك تعتبر من أصعب المهن، خصوصا أن التمثيل والكلام باسم المجموعة من بين الخاصيات التي يمتلكها القليل والقليل من الناس. العقل الرسمي المغربي كان يعرف أن كفاءة وزير ليست هي التخصص أو المعرفة التقنية بميدان معين، لكنها القدرة على الفهم وعلى الحكم وعلى تقييم مشكل معين وإيجاد الحلول له، بالإضافة إلى موهبة الكلام وموهبة التعبير (الفيلسوف الفرنسي ماتيو دوكان، في مقاله الطريق نحو منصب الوزير).
اعتبارا لهذه الصعوبة، سيعمل العقل المركزي للدولة على استثمار الكثير من الجهد في تعزيز المهمة الجماعية للوزراء (الوزير+ الديوان)، مع العمل كذلك على ربط تطوير المهمة الجماعية للوزير بتطوير الممارسة الديمقراطية بالمغرب، لأنه كان مقتنعا بأن تطوير الديمقراطية بالبلد مرتبط ارتباطا وثيقا بتطوير ثنائية (السياسة+ الأفكار)، وبالتالي ثنائية (الوزير+ الدواوين)، وفي الأخير تعزيز العمل المؤسساتي من داخل المربع السياسي.
وفي هذا السياق، ومباشرة بعد مرحلة الاستثناء وعودة الحياة الدستورية في المغرب، عمل العقل السياسي المغربي على تعزيز مهمة الوزير كمهمة جماعية (الوزير+ الديوان)، تبني إستراتيجية الوزير كمهمة جماعية مع تعزيزها بالديوان، ما كان إعلانا من طرف السلطة المركزية بالبلاد عن إعطاء الأولوية للعمل السياسي للوزراء وتعزيزه.
تدشين مرحلة الانفتاح السياسي في المغرب بعد الانقلابات العسكرية، وتبني إستراتيجية المسلسل الديمقراطي، ترسخا من خلال التنصيص على الظهير المتعلق بوضعيات أعضاء الحكومة وتأليف دواوينهم سنة 1975، (السياسة +الأفكار). والشق المتعلق بالأفكار كان يتجسد من خلال التنصيص على المستشارين التقنيين والمكلفين بمهمة.
ومن أجل تعزيز ثنائية (السياسة-الأفكار)، عمل العقل المركزي للدولة على إحداث مهمة -مكلف بالدراسة- في القطاعات الوزارية سنة 1978، ما فتح المجال للوزراء للاستعانة بالخبراء وأصحاب الملفات والمتخصصين، وبالتالي رفع نوعية العمل السياسي للوزراء.
وإبان التهييء لمرحلة التناوب التوافقي، لم يتردد العقل السياسي المركزي المغربي في تحديث المهمة الجماعية للوزير من خلال الظهير الموقع سنة 1995، الذي يخص وضعية أعضاء الحكومة وتأليف دواوينهم، حيث سيتم تعزيز مربع الأفكار في المهمة الجماعية للوزير من خلال الرفع من عدد المستشارين التقنيين، وكذلك التنصيص على مستشار في التواصل.
سنة 2016 ستكون سنة مفصلية كذلك في إستراتيجية تعزيز مهمة الوزراء، من خلال تمكينهم، وكلما اقتضت المصلحة ذلك، من تشغيل الخبراء بموجب عقود لإنجاز مشاريع أو دراسات أو تقديم استشارات أو خبرات أو القيام بمهمة محددة. توفير هذه الوسائل للسلطة الحكومية وللمهمة السياسية كان يستهدف بالأساس تعزيز -مربع العقل- والرفع من النوعية المتعلقة بالخبرة والدراسات، وتحسين مستوى القرار ومستوى التصور ومستوى التوقع وتعزيز المعلومة والحجة والقدرة على الإقناع وإيجاد الحلول، وتعزيز مهمة التواصل لدى الطبقة التي تحتكر الكلام، من خلال جعلها قادرة على إقناع الأغلبية الصامتة.
لكن، ومنذ دخول الدستور الجديد حيز التنفيذ، وصدور القانون التنظيمي المتعلق بتنظيم وتسيير أشغال الحكومة والوضع القانوني لأعضائها، لم يتم تحديث المهمة الجماعية للوزراء، بعدما عمل الدستور الجديد على تعزيز المهمة السياسية للحكومة.
إغفال الطبقة السياسية بالمغرب (ما بعد دستور 2011) مسألة تطوير وتعزيز ثنائية (السياسة +الأفكار)، من خلال تفعيل وتنزيل المادة التاسعة والعشرين من القانون التنظيمي المتعلق بالعمل الحكومي، كان إغفالا للمهمة الحكومية المتمثلة في تعزيز الاشتغال من داخل المربع السياسي.
عدم الاهتمام بتحديث الوضعية الجماعية للوزراء (خصوصا أن المطلوب في الألفية الثالثة من الدواوين الوزارية يختلف جوهريا عما كان مطلوبا منها في القرن العشرين)، من خلال تعزيز -مربع العقل- أرسل إشارات سلبية مفادها أن الوزراء في المغرب لا يفضلون الاشتغال من داخل المربع السياسي، بل يرتاحون إلى العمل من داخل المربع الإداري، ومن بعد المربع المالي (ثنائية الوزير-الإدارة).
تفضيل الحكومة الاشتغال من خارج المربع السياسي كان له تأثير كبير على العلاقة التواصلية بين ثنائية (الحكومة-المجتمع) لصالح ثنائية (الحكومة-الإدارة).
إن خيار تفضيل الاشتغال من تحت سقف ثنائية (الحكومة -الإدارة) وتهميش الاشتغال من تحت سقف (الحكومة-المجتمع)، في مرحلة الأزمات، تكون فاتورته ضخمة على البلد، لأنه يعزز صف المولولين في مواجهة صف المطمئنين، خصوصا في مرحلة الأزمات (كوفيد- حرب أوكرانيا – الجفاف – الحرائق- أزمة المياه- تدهور القدرة الشرائية).
2- حزب رئيس الحكومة والعجز عن ترسيخ شعار “من أجل غرامشي اليميني”
كان العقل السياسي المغربي في نهاية سبعينيات القرن الماضي يبحث عن تأسيس أحزاب يمينية قادرة على دغدغة مشاعر المغاربة، كما كانت تفعل أحزاب الحركة الوطنية آنذاك. وشكل اكتساح اليمين البريطاني لصناديق الاقتراع في بريطانيا من خلال صعود مارغريت تاتشر (تاتشر كانت تربط السياسة بالجامعة والبحوث الأكاديمية، فريدريك حايك، ميلتون فريدمان…) إلى الحكم، ومن بعدها رونالد ريغن في الولايات المتحدة الأمريكية، حلما قابلا للاستيراد والتجريب بالمغرب (حلم اليمين القادر على دغدغة مشاعر الحشود)، في نظر العقل المركزي للدولة.
كما أن العقل المركزي للدولة في مرحلة نهاية السبعينيات كان متفقا مع الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو، عندما أكد أن الأفكار اليمينية التي تكتسح بعض الدول هي -تكنولوجية سياسية تستهدف التنظير لعهد جديد للفعل الحكومي-.
تأسيس حزب الأحرار سنة 1978 لا يمكن فصله إطلاقا عما كان يجري في الساحة الدولية آنذاك. الرهان على حزب الأحرار كان رهانا على التوجه النيوليبيرالي، في مواجهة أحزاب القواعد والحشود والأيديولوجية الشمولية (أحزاب الحركة الوطنية آنذاك).
من خلال تأسيس حزب الأحرار، كان العقل المركزي للدولة يراهن على البروز القوي لما يطلق عليها -رأسمالية الإغواء أو رأسمالية الإغراء -(عنوان الكتاب الذي أصدره الباحث ميشيل كلوسكارد سنة 2009)، حيث المطلوب التبشير -بمجتمع الاستهلاك- ومجتمع -استبدادية العرض- (وجود الكبش في السوق ولكن ليس مهما تدهور القدرة الشرائية)، والعمل كذلك على الخروج من تعقيدات ثنائية (الإنتاج-العمل) ومفهوم المواطن صاحب قوة العمل، والانتقال المريح إلى عالم الاستهلاك الرحب والواسع، والمفهوم الجديد للمستهلك، واستقبال العصر الجديد للاستهلاك والعصر الجديد للسوق.
كما أن العقل المركزي للدولة كان معجبا كذلك بالشعار الذي أطلقه اليمين الفرنسي بعد نجاح فرانسوا ميتران في الانتخابات، الذي يتمحور حول “من أجل غرامشي اليميني”.
تبني فلسفة غرامشي من طرف اليمين سيتجسد في فرنسا من خلال مؤسسة سان سيمون، التي تأسست في الثمانينيات من القرن الماضي، وأرادت أن تتجاوز ذلك التقسيم التقليدي (يمين-يسار)، وأطلق عليها المستشار السياسي ألان مينك “مربع العقل”.
اشتغال مربع العقل يتم في الغالب من خلال مجموعة التفكير الجاهز- الاعتماد على التقارير- المسودات التقنية – الاقتراحات- المفاتيح باليد- الحوارات التلفزية وفي صفحات الجرائد.
شعار من أجل غرامشي اليميني سيتبناه كذلك الرئيس الفرنسي السابق نيكولاي ساركوزي، حيث سيؤكد في حوار له مع مجلة “لوفيغارو” على شعاره الشهير: أنا لا أقوم بمعركة سياسية، أنا أقوم بمعركة إيديولوجية، وفي العمق أنا مؤمن بتحليل غرامشي، السلطة تكسب من خلال الأفكار (إعادة التفكير في الدولة-إعادة التفكير في الفعل العمومي-الإبداع من خلال الحلول التنظيمية-الحلول التقنية-الحلول التدبيرية-تبني التدبير العمومي الجديد- تقييم الوزراء-تبني إستراتيجية التعاقد(عام – خاص-مجتمع مدني)-تبني الموجة الثانية من التدبير العمومي الجديد(الدمج-التقليص -تجميع التنظيمات على مستوى الهرم، وكذلك مستوى القاعدة-حذف التنظيمات ذات المهام المزدوجة-البحث عن تقوية المواقع التنظيمية-التركيز على الفعالية وعلى الكلفة). من خلال هذه الأفكار كان اليمين الفرنسي يريد إقناع -الأغلبية الصامتة الفرنسية- بأنه يمين يفكر.
من خلال رفع هذا الشعار كان اليمين الفرنسي يبحث عن ترسيخ ما يطلق عليه اكتساح اليمين للحقل الفكري (استرجاع السيطرة الفكرية من اليسار) أولا، ومن ثمة العمل في مرحلة ثانية على اكتساح الحقل السياسي، الإستراتيجية اليمينية الجديدة كانت إستراتيجية مختلفة عن السابق، التي كان اليمين خلالها يكتفي بالانزواء في الحقل الاقتصادي تاركا مجالات ترسيخ وتجسيد الانتقال (التعليم – الصحافة-الثقافة) لخصومه اليساريين.
وبالتالي، ومن خلال التأشير على تأسيس حزب الأحرار، كان العقل السياسي المغربي يطمح إلى تشجيع ودعم يمين مغربي يفكر ويغري ويكتسح العقول ويحكم في الأخير؛ لكن اليمين المغربي للأسف كان نسخة رديئة عن اليمين في العالم، فلا هو منفتح على الجامعة ولا هو منفتح على الأفكار الجديدة ولا هو قادر على الاكتساح، ولا هو قادر على الإبداع في إيجاد الحلول ولا هو قادر على ربط الجسور مع الشعب الحقيقي.
ورغم أن الملك الراحل الحسن الثاني كان معجبا جدا بما يطلق عليها إستراتيجية غرامشي اليميني، سواء من خلال التأشير على تأسيس حزب الأحرار سنة 1978، أو من خلال العمل في المجلس الوزاري ليوم 05 دجنبر1980 على إحداث منصب مكلف بالدراسات داخل الهياكل الوزارية؛ وذلك في أوج الأزمة الاقتصادية (أزمة المديونية) و(عشية الإضراب العام 20يونيو 1981)، والتوتر السياسي والاجتماعي، والتي كانت تستهدف تقوية محيط الوزراء وتقوية المهمة الجماعية للوزراء، من خلال الرهان الكبير على تدعيم -مربع العقل- داخل العقل الحكومي (العقل الوزاري) المغربي من أجل تهيئته لمواجهة مربع العقل الحزبي المعارض (الذي كان ينتمي في الغالب إلى النخبة الأكاديمية والجامعية المغربية-نخبة الأفكار).
إلا أنه للأسف لم يستطع حزب الأحرار إلى حد اليوم أن يبصم سياسيا على عنوان المرحلة وخصوصية المرحلة السياسية التي تعقب تصدره نتائج الانتخابات التشريعية الأخيرة، ولم يستطع كذلك أن يمنح لهذه المرحلة عنوانا سياسيا.
البلد الذي يتحرك، والبلد الذي يمشي على قدميه، من المفروض أن يتوفر كذلك على جهاز تنفيذي قادر على إعطاء توهج وبريق للزمن الحكومي والموعد الحكومي والساعة الحكومية. لكن الواقع الحالي يثبت أن حزب الأحرار فشل إلى حد الآن في ترسيخ الآمال التي كانت معقودة عليه من طرف العقل المركزي للدولة، خصوصا في هذه المرحلة بالذات (جنون السوق – الجفاف- أزمة الماء –الحرائق…). وإن أقصى ما يمكن أن يفعله حزب الأحرار في المرحلة الحالية هو العمل من داخل الحقل الاقتصادي ومن داخل الحقل الاقتصادي العمل على توسيع هامش السوق على حساب هامش حضور المؤسسات.
تصدر حزب الأحرار للانتخابات الأخيرة لم يأت كشكل من أشكال تبني إستراتيجية غرامشي عبر العمل من خلال ثلاثية: الاكتساح الثقافي-الاكتساح الأيديولوجي -الاكتساح السياسي. عجز حزب الأحرار عن الارتقاء برئيس المؤسسة التشريعية إلى مستوى موقعها الدستوري، باعتبارها مؤسسة جامعة تمثل الإرادة الشعبية والشعب الحقيقي، وليس فقط الشعب القانوني، بحيث إن رئيس المؤسسة البرلمانية نصب نفسه مدافعا شرسا عن رئيس الحكومة، وبأسلوب لا يرقى إلى سمو المنصب الذي يشغله (خطاب الديب الشارف – خطاب المرضى)، وهنا نستحضر كاريزما رؤساء المؤسسة البرلمانية السابقين، فقهاء القانون وأساتذة الجامعة المحنكين أو السياسيين من مرتبة رجال الدولة الذين يحافظون على سمو المنصب وارتباطه بالإرادة الشعبية وبالقضايا الجامعة وبالمصلحة العامة، والذين يتدخلون فقط من أجل ترسيخ القيم المشتركة ويصمتون في مرحلة الاختلاف في انتظار تبلور الاتفاق والإجماع والمصلحة العامة. وبالتالي فشل الأحرار في إستراتيجية إغواء العقول وفي إستراتيجية إقناع الأغلبية الصامتة بالمغرب، ونجح فقط في استثمار التصويت العقابي على مرحلة تصدر حزب العدالة والتنمية.
3- تعزيز موقع رئيس الحكومة في دستور 2011 كان يعني كذلك تعزيزا لموقع الرفض الكبير الذي يقابله
اهتم الكثير من المتتبعين بمسألة تعزيز دور رئيس الحكومة في الدستور الجديد لسنة 2011، من خلال اقتراح الوزراء-البرنامج الحكومي -المجلس الحكومي-سلطة التعيين… لكن الكل لم ينتبه إلى حقيقة أساسية، وهي أن هذا التعزيز يعمل كذلك على تعزيز سلطة الرفض التي تقابل كل مراكز السلطة السياسية.
شعار ارحل الذي يرفع بين الحين والآخر في وجه كل رؤساء الحكومات الذين تعاقبوا بعد دستور 2011 (عبد الإله بنكيران-سعد الدين العثماني -عزيز أخنوش) يؤكد بوضوح أن ثنائية (سلطة رئيس الحكومة-سلطة الرفض الكبير) تتعزز وتترسخ بالمغرب. وهنا نستحضر ما أكد عليه الفيلسوف ميشيل فوكو في كتابه “إرادة المعرفة”، عندما قال: “نحن مهووسون بالبحث عن مكان للسلطة، حتى نتمكن من معارضتها من خلال مكان للرفض الكبير”، ومكان السلطة الذي يقابله مكان للرفض الكبير (ما بعد دستور 2011) كان هو موقع رئيس الحكومة.
الوعي بالحضور القوي لثنائية (سلطة رئيس الحكومة-سلطة الرفض الكبير) يعني أن الطبقة السياسية يجب أن تعي بأن الاشتغال المهم والأساسي من أجل إنجاح سلطة رئيس الحكومة، أمام سلطة مكان الرفض الكبير، تتم من خلال الاحتلال القوي للمربع السياسي، لأن الاشتغال من داخل المربع السياسي هو الوحيد الذي يعزز ويوسع قاعدة المؤيدين والمطمئنين، ويقلص بالتالي من موقع سلطة -الرفض الكبير-.
4- الحكومة وفتح قنوات التواصل مع الأغلبية الصامتة
في مرحلة الأزمات يجب على الحكومات أن تخرج من عزلتها وتفتح قنوات التواصل مع المواطن العادي من خلال استعمال الثنائي (الشفهي-المكتوب)، وعدم حصر النقاش السياسي (النخب التي تحدث نفسها) في الطبقات التي تحتكر الكلام (وبالتالي نرسخ ثنائية الطبقات المتكلمة في مواجهة الأغلبية الصامتة). الحياة الديمقراطية والحياة المدنية تتطلب قنوات وأماكن للحوار والتلاقي بشكل متساو، وبالتالي يتطلب الأمر من الحكومة إعطاء الأولوية للمربع السياسي، لأن هذا المربع هو الذي يلعب الدور الأهم والأساسي في تحديد ما يجب عمله داخل المربع الإداري والمربع المالي، كما أنه من داخل المربع السياسي يتم تطوير وصنع الدولة الإستراتيجية، أي الدولة التي تفعل من خلال التأثير ومن خلال حسن التواصل وليس فقط الدولة التي تفعل من خلال الأموال العمومية والمديونية والضريبة ومن خلال القواعد العامة.
كما أنه من داخل المربع السياسي يتم تحديد المصلحة العامة التي تعتبر حجر الزاوية في الديمقراطية، والتي تضمن شرعية القرارات المتخذة باسم الجميع.
في كتابه “قول العالم” يقول الفيلسوف فرانسيس وولف: “قدرتنا المحدودة على معرفة العالم هي نتيجة طبيعية لقدرتنا المحدودة على قوله”، وبالتالي يحضر اللايقين، وبحضور اللايقين تهتز الثقة التي تتمتع بها القاعدة القانونية وتتزعزع كذلك المكانة السابقة التي كانت تحظى بها -الدولة العمودية- لأن اللايقين ينتقص من الدولة العمودية (الحكومة – الإدارة-الزمن القصير والزمن المتوسط) ويعزز الدولة الأفقية (النقاش السياسي بين الأطراف المتساوية، اليمين – اليسار -الزمن اللحظوي).
يقول أستاذ علم السياسة البولوني أدام برزيوورسكي: “الديمقراطية هي الشكل الممأسس للايقين”. أستاذ علم السياسة الألماني جون وارنير ميلر، سيذهب أبعد من ذلك في كتابه “الحرية، المساواة، اللايقين” الصادر في يناير 2022، حيث سيرتقي بمصطلح اللايقين إلى مستوى المبادئ الكبرى للديمقراطية، من خلال وضعها في مستوى مبدأ الحرية ومبدأ المساواة.
الارتقاء باللايقين إلى مصاف المبادئ الأساسية للديمقراطية(الحرية-المساواة- اللايقين) يعني بالأساس تعزيز الحكامة السياسية والحكامة الأفقية، فالديمقراطية الحوارية تبنى من خلال مساطر للاستشارة لا تتوافق مع منطق القرارات الحاسمة للأغلبية وللحكومة. لهذا فإن التركيز على البحث عن عالم مشترك يتم من خلال الحوار السياسي، ومن خلال إنشاء لجن الحكماء، مجالس الحكماء (مجالس تضم المفكرين والجامعيين والفلاسفة والأطباء المجتمع المدني، المواطنين والذين تتم دعوتهم أمام العموم من أجل إعطاء الرأي والمشورة للسلطة السياسية)؛ وكذلك من خلال ندوات للتوافق حول المشاكل المستعصية التي تتطلب الإجماع والرأي الجماعي والمصلحة العامة. إن اللجوء إلى مجالس الحكماء تستهدف من ورائه السلطة السياسية البحث الحثيث عن حكامة جيدة للمشاكل التي لا تجد لها حلولا من خلال الديمقراطية التفويضية.
القرار داخل الدولة العمودية يعتمد على أن هناك اختيارا حاسما في زمن محدد، وبالتالي هناك فعل يتخذ من طرف السلطة الشرعية، وأن هذا القرار يمتلك ما تسمى قوة الشيء المقرر. بينما القرار في الدولة الأفقية هو قرار (لا يمتلك قوة الشيء المقرر كما يتم الاعتقاد داخل الدولة العمودية، بل إن القرار ينظر إليه كأن هدفه الأساسي هو تحقيق المصلحة العامة وبالتالي من المفروض أن يمتلك ما يطلق عليه قوة الشيء المتفق عليه). كما أن القرار داخل الدولة الأفقية هو نتاج لمسلسل من اللقاءات، وهو كذلك نشاط تكراري يتطلب مجموعة من القرارات من الدرجة الثانية ويعتمد على مجموعة من الفاعلين المتنوعين حسب المجالات المختلفة، وهو قابل للتراجع عند ورود معلومات جديدة أو قواعد جديدة للعبة.
الدولة الأفقية تشتغل بالأساس من داخل المربع السياسي، على اعتبار أنه المربع الذي يؤطر الاشتغال الديمقراطي للحكومة من خلال الأغلبية والمعارضة، النقابات، المجتمع المدني، وهو المربع الذي يتكلم فيه الكل كمتساوين، وبالتالي هو مربع التوضيح والإقناع وتبادل الأفكار وتوسيع معسكر المؤيدين وتقليص معسكر الرافضين، وتشييد القناطر في اتجاه الأغلبية الصامتة (وبالتالي هو المربع الذي يقود السفينة في مرحلة الأزمات).
على اعتبار صعوبة الاشتغال داخل المربع السياسي، تفضل غالبية الحكومات الاشتغال من داخل المربع الإداري والمربع المالي، باعتبارهما المربعين اللذين يمنحان أريحية في التصرف للجهاز التنفيذي، (السلطة الرئاسية-سلطة الأمر بالصرف-سلطة استعمال الموارد)، ولأنه كذلك المربع التي تتجبر فيه الحكومة من خلال التحصن تحت يافطة الأغلبية والبرنامج الحكومي…(الدولة العمودية). الهروب الحكومي إلى المربع الإداري والمالي، وترك المربع السياسي شاغرا أو عدم إعطائه الأهمية التي يستحق، يوسع الهوة بين الطبقة التي تحتكر الكلام والأغلبية الصامتة، ما يفتح الباب على مصراعيه على المجهول، من خلال فتح الباب أمام الأغلبية الصامتة للتحول إلى أغلبية متمردة.
5- المغرب من المفروض أن يبحث عن طريق ثالث بديل عن إستراتيجية “صم الآذان” وإستراتيجية “ارحل”
يمكن اعتبار دستور 2011 دستور ثورة الجموع لارتباطه بما أطلق عليه -الربيع العربي- دستور ثورة الجموع مهد الطريق لصعود أحزاب الحشود وأحزاب الجموع، (صعود حزب العدالة والتنمية لرئاسة الحكومة بعد دستور 2011 ولمدة ولايتين).
في سنة 1930، أصدر الفيلسوف الإسباني جوزي أورتيغا كتابه المهم الذي يحمل عنوان “ثورة الجموع”.. صدور هذا الكتاب أتى بعد الثورة البلشفية وصعود الفاشية (الفاشية-الشيوعية).
الكاتب حاول أن يثبت أن أزمة الثقافة الغربية (في تلك الحقبة) مرتبطة بانتشار سياسة الجموع. صاحب كتاب ثورة الجموع أراد أن يسلط الضوء على اكتساح الجموع للمشهد السياسي. كما يضيف الكاتب في تحليله لظاهرة ثورة الجموع أنها حركات نمطية لمن يطلق عليهم الأشخاص-الجموع، الذين يقودهم الأشخاص المتوسطون في أحسن الأحوال.
إذا كان دستور 2011 أنتج لنا حكومتين ضمن مظلة ثورة الجموع فإن انتخابات 2021 أنتجت لنا حزبا متصدرا لا يعتمد على الجموع في تنظيمه وثقافته، بل حزبا للنخبة البرجوازية الصناعية والتجارية ورجال الأعمال والكوادر الإدارية والأعيان المحليين، وبالتالي إذا كانت انتخابات 2011 أنتجت لنا ثورة الجموع ضد النخب فإن انتخابات 2021 أنتجت لنا ثورة النخب ضد الجموع.
في إطار رده على كتاب سياسة الجموع سيصدر كريستوفر لا سش كتابه الذي يحمل عنوان “ثورة النخب”. بالنسبة للكاتب ليست الجموع التي تفرض ثقافتها اليوم، ولكن النخب، النخب التي تراقب التدفقات المالية الدولية، والنخب التي تراقب تدفق المعلومات، والنخب التي ومن خلال مؤسسات التكوين العليا تدبر آليات الإنتاج الثقافي وتحدد بالتالي مساحة النقاش العمومي.
أحزاب النخب تعتبر أن الحكم ليس فنا بل علما (ليس كل النخب للأسف)، وبالتالي يعملون على تعزيز الروابط مع الجامعات حتى يضمنوا الإضافة النوعية التي سيقدمها الخبراء (لكن الخبراء البعيدين عن الواقع) وأصحاب المعرفة المتخصصة؛ واعتبارا لذلك فإن النقاش العمومي في نظرهم ليست له تلك الأهمية التي يعتقدها الكثيرون (رد رئيس مجلس النواب على الجموع، وجزء من الرأي العام، بأنهم مجموعة من المرضى).
إذا كانت النخب تعتمد في بحثها عن الحلول التي تكون في المجمل خلاصات لما يطلق عليها “معرفة الخبراء”، بخلاف الشعبويين الذين يعتمدون في اقتراح الحلول على شعارات الرأي العام، فإن مجموع المعارف التدبيرية للنخب محصورة على فئة معينة. وهذه المعارف التدبيرية تعتمد على أخلاق النجاح والتفوق، وبالتالي بالنسبة لهم الأحياء والمدن والشارع والهوامش هي أماكن -الذين لا يتمتعون ولا يمتلكون روح المبادرة، وبالتالي وجب تركهم لشأنهم ولقدرهم-.
وإذا كانت أحزاب الحشود تعتمد على الشعب المستقر في المدن والهوامش والأحياء فإن أحزاب النخب تعتمد في الغالب على النخب والأطر المتحركة، التي لا تستقر في مكان معين، وكثيرة الترحال، إذ إن عالم الأعمال والمهنيين المفكرين يكونون شعبا متحركا لا يستقر في مكان واحد، وبالتالي لا يتوفر على مقر مستقر، فموقعهم في الشركات الدولية المتنقلة والمؤسسات الدولية، ما يجعلهم لا يتوفرون على مقر داخل المجال العمومي، لكن يتوفرون على مقر دولي، أي داخل المجال الدولي (العولمة).
ابتعاد هذه النخب عن المجال العمومي واستقرارها داخل المجال الدولي يجعلها تعتقد أن مجموعة من الأسئلة السياسية هي في طبيعتها جد معقدة، وبالتالي لا يمكن الحكم عليها من طرف عامة الشعب؛ ولهذا تمتلك اعتقادا راسخا بأن الرأي العام غير مؤهل لطرح الحلول، وتعتقد كذلك أن هناك تناقضا كبيرا ما بين الخبير العلمي والمتكلم العمومي، وأن المتكلم العمومي ما هو إلا طاحونة للكلام غير المفيد، الذي لا يعمل إلا على بث المزيد من الضبابية على العقل العمومي، لهذا وجب الصمود من داخل إستراتيجية صم الآذان والديمقراطية دون كلام، ما قد يدفع البلد لا قدر الله إلى الاصطدام بالحائط ما بين إستراتيجية -صم الآذان- وإستراتيجية -ارحل-.
وبالتالي وفق هذا التأطير فإن حزب الأحرار تحكمه الثنائية التالية (الآخر لا يفهم، لا جدوى من الكلام معه والتوضيح له والتبرير له، وينبغي منح الأولوية لتنفيذ البرنامج). لهذه الأسباب نلاحظ لجوء الحكومة إلى المربع الإداري والمربع المالي، وتهميش المربع السياسي.
6-الحكومة وضرورة ترسيخ ما يطلق عليها “الثرثرة الديمقراطية”
الاعتقاد السائد في الديمقراطيات الحديثة يتمحور حول كون الكلمة تعتبر مضيعة للوقت. المغني الشهير ايلفيس بريسلي سيقول في أغنيته- من أجل القليل من الحوار والكثير من الفعل- كما أن العمل تحت مظلة (الأغلبية -الأقلية) يجعل البعض يعتقد أن الأقلية تتهم بكونها تريد أن تعمم الضبابية على الفعل العمومي، بدل أن تترك الأغلبية المنتخبة شرعيا تشتغل لوحدها. (وبالتالي يعتقد البعض أن رفع كلمة ارحل في وجه رئيس الحكومة يضيف إلى الأزمة مشكلا جديدا يحتاج لإخراج دستوري أو الدعوة لانتخابات سابقة لأوانها أو إدخال البلاد في متاهة استمرارية المؤسسات)، وفي هذا السياق يطلبون من الأقلية أن تستعد لكسب الانتخابات القادمة، وفي انتظار حلول الانتخابات القادمة عليها أن تهتم بتهيئة الملفات لليوم الانتخابي القادم من أجل ضمان الفوز(وفي هذا السياق فإن الساعة الدستورية التي تؤطر شعار -ارحل في وجه رئيس الحكومة- هي اليوم الانتخابي، أما خلال الولاية التشريعية فيجب الاحتجاج على القرارات، المطالبة بفتح نقاش وطني – الإضراب العام أو إبداع أشكال أخرى من الاحتجاج، لكن من داخل زمن الولاية التشريعية).
القانوني هانز كيلسن سنة 1920 يؤكد أن الأغلبية عليها أن تكون الضامنة للأقلية، وبالتالي فإن الأغلبية العددية لا تمنحنا الشرعية بالعمل لصالح الجميع. ميكيافيلي سيؤكد أن السياسة تعتمد على -المعارضة- وبالتالي فإن الصراخ والاضطرابات هما مكونان أساسيان للسياسة، ويخلص إلى أن هناك توجهين متناقضين، توجه الشعب وتوجه الكبار. جون ليك ميلنشون، الزعيم اليساري، في تدخله بعد الانتخابات البرلمانية الفرنسية الأخيرة سيقول -هناك الآن في البرلمان الفرنسي التوجه البرلماني والتوجه المرتبط بالشارع.
في مرحلة الأزمات يتم الإصرار على تعزيز ما يطلق عليها -الثرثرة السياسية- من خلال إفساح المجال للنقاش وتخصيص الوقت الضروري والكافي لصنع التوافقات، حتى يتم البحث عن الحلول، ويتم العمل على تشخيص الأزمة وتشخيص المشاكل. الفيلسوف الهولندي سبينوزا سيعود له الفضل في تسليط الضوء على ما يطلق عليه دور تضييع الوقت في النقاش في سقوط الجمهورية الهولندية، إذ عمل على الرد على مصطلح تضييع الوقت في النقاش السياسي من خلال التأكيد على أن عقول الأشخاص هي بشكل عام ضعيفة وغير قادرة على الغوص والوصول من الوهلة الأولى إلى عمق الأشياء، لهذا نحن في حاجة دائمة إلى عملية الشحذ من خلال النقاش والاستماع، وفي حاجة كذلك للصراع والخصام؛ وفي خضم هذه العملية المعقدة يفتح الطريق على مصراعيه من أجل الوصول إلى الفكرة العامة التي لم نتصورها في البداية ولم نفكر فيها.
يقول جيل مونطري، في كتابه “الديمقراطية، لنرجع التصويت للمواطنين”، إن القوانين التي تم التصويت عليها بعد نقاش حاد وطويل هي القوانين التي تصمد في الزمن. ويستدل الكاتب في ذلك على قوانين الجمهورية الفرنسية الثالثة والقوانين الكبرى التي أنتجتها بعد نقاش برلماني طويل من أجل منح الوقت الكافي لتبلور التوافق بشأنها، (قانون 1884، حول نظام الجماعات، الذي استمر النقاش البرلماني بخصوصه 14 سنة، قانون1901حول حرية التجمع…).
ما يثبت أن منح الوقت الكافي للنقاش والإقناع يقود حتما إلى إنتاج قوانين طموحة تصمد في الزمن، لأنها نتاج توافق صلب ومبني. الدول التي طورت نظامها الاجتماعي مثال ألمانيا والدانمارك والسويد هي دول عملت بشكل حثيث على تطوير النقاش العمومي من خلال مفاتيح الأفكار، ومجمعات التفكير المرتبطة بالأحزاب وحضور النقابات ومجموعات المصالح. كما أن السويد تمتلك رصيدا كبيرا من التوافق من خلال تبنيها شعار “الأحسن يوجد من خلال القياس”، أو كما يقول المثل الإفريقي “وحيدا تذهب أسرع ولكن جميعا نذهب أبعد”.
في محاضرته التي ألقاها في كوليج فرنسا، لم يتردد الفيلسوف ميشيل فوكو في طرح السؤال الجوهري ما هي المخاطر التي قد تحدث من خلال ترك الناس تعبر عن آرائها، من خلال النقاش السياسي المتواصل والمثمر، أين الخطر في ذلك؟.
الخطر الوحيد في ذلك هو الخطر الذي يشعر به الديكتاتور، الذي يعمل على خدمة الأقلية. كما أن الخطر قد يشعر به كذلك من يريدون ترسيخ شعار -الديمقراطية دون كلام- الذي قد ينتج عن عدم إفساح المجال أمام النقاش والحوار السياسي المتواصل. وفي هذا السياق نستذكر الشعار الذي رفعته مارغريت تاتشر طيلة مدة ولايتها -لا يوجد بديل- من أجل ترسيخ ديكتاتورية اليمين الليبرالي. في المغرب يشعر المواطن العادي بأن هناك جنوحا نحو ترسيخ ما يطلق عليها -الديمقراطية دون كلام-.
فتح المجال للنقاش السياسي، ومنح الوقت الكافي لهذا النقاش، هو شكل من أشكال ترسيخ الديمقراطية الفعلية، فالديمقراطية تستوجب ما يطلق عليها -الثرثرة الديمقراطية-، وعلى الرغم من أن الثرثرة الديمقراطية قد يعتبرها البعض مضيعة للوقت، إلا أنها من جهة أخرى تجعلنا نربح الوقت من خلال مساهمتها في صنع ما يطلق عليه -البناء المشترك- وفي هذا السياق لم يتردد جون جاك روسو في التأكيد على أن الديمقراطية والتربية تتطلبان تضييع الوقت وليس ربح الوقت.
الخلاصة
إذا كانت بعض الأحزاب تفهم الديمقراطية فقط في كونها ديمقراطية تفويضية، فإن غالبية الشعب المصوت يفهم الديمقراطية باعتبارها ديمقراطية النتائج (ما هو الأثر الذي تتركه هذه الديمقراطية على حياته اليومية)، وفي هذا السياق يؤكد أصحاب حركة من أجل ترسيخ الانتخابات العامة ما بعد سنة 1838، في بريطانيا من خلال زعيمهم ج.ر.ستيفانس، أن -الانتخابات العامة نستهدف من ورائها أن نضمن لكل فرد في الوطن معطفا جيدا يلبسه على ظهره، وقبعة على رأسه وسقفا لبيته وعشاء جيدا على طاولته- (من كتاب سقوط الأوطان). هذه المقولة تبرز أن الهدف من الانتخابات كان دائما النتائج على الأرض والنتائج التي تمس الحشود.
في مرحلة الأزمات، يبرز دور المؤسسة التنفيذية على باقي المؤسسات، من خلال العمل على ما يطلق عليه في علم السياسة -العودة إلى الأساسي- وتعني بالأساس التركيز على ديمقراطية النتائج والاهتمام بتسعة وتسعين في المائة من الشعب الحقيقي، من خلال انتشاله من الفقر وتعزيز قدرته الشرائية، والإبداع الفعلي والحقيقي من أجل الابتكار اليومي في البحث عن الموارد.
أستاذ العلوم السياسية نيكولاس روسليي وصاحب كتاب “قوة الحكم” سيؤكد على ضرورة تبني ما يطلق عليها -ديمقراطية النتائج- تبني جزء يسير من ديمقراطية النتائج بالنسبة للحزب المشكل للحكومة يعني بالأساس المشي والتحرك مع التركيز أكثر على الرجل اليسرى (الرجل التي تهتم بالسياسات التي تستهدف الطبقات الفقيرة والطبقة المتوسطة)، من خلال العمل على دعم السياسات العمومية التي تترك أثرا لدى الطبقات الدنيا والطبقات المسحوقة، حتى وإن تطلب الأمر أن تبقى الرجل اليمنى (الرجل التي تهتم بالسياسات العمومية الموجهة للأغنياء) في مكانها في مرحلة تدبير الفوضى الدولية وجنون الأسعار.