انتشر في الآونة الأخيرة وَسْمٌ “هاشتاغ” يدعو رئيس الحكومة إلى “الرحيل” بِعِلَّة غلاء أسعار المحروقات…
وإذا كانت الحملات المنظمة من طرف “المجتمع المدني” بخصوص هذا الجانب أو ذاك، من جوانب التدبير الحكومي و/أو المؤسساتي عموما أمرا محمودا، لكونه دليلا على حيوية المجتمع، وعنوانا على اليقظة المواطنة، إذا كان ذلك كذلك، فإن الحملة الافتراضية الحالية ضد ارتفاع ثمن المحروقات تقتضي قراءة مختلفة: قراءة من منظور غير المنظور الذي ننظر به إلى شكاوى المواطنين من غلاء أسعار المواد الغذائية والأدوية والخدمات.
وأول ما يثير الانتباه بخصوص الحملة التي تشغلنا هنا كونها حصرت الغلاء، الذي بموجبه تدعو رئيس الحكومة إلى “الرحيل”، في غلاء وقود السيارات. إن هذا التخصيص يدل على أن منظمي الحملة هم من الطبقة المتوسطة: فما دونها من فئات اجتماعية (مياومون ومتعيشون بالأنشطة غير المنظمة وعاطلون) لا تسمح لها مداخيلها غير المنتظمة أو الشحيحة أو المنعدمة بامتلاك سيارة، مهما كان نوعها.
ومن المعلوم أن الطبقة المتوسطة، بفئاتها العليا والوسطى والدنيا، تتكون من أفراد يتمتعون بمستويات تعليمية متفاوتة، لكنها في عمومها معتبرة. ومن المعلوم أيضا -أو هكذا يُتوقع- أن التعليم يمكن صاحبه من اكتساب وعي يتجاوز الوعي العملي، الأداتي، الذي يؤمِّن البقاء (la survie) (ضمن نسق ثقافي يتكفل بوضع القيم وتحديد سُلّمِها، بحيث تكون في حكم البديهيات بالنسبة لأفراد المجموعة). إن الوعي المكسب عن طريق التعليم يختلف عن الأخير بكونه ذا بعد نظري (فضلا عن المهارات الوظيفية، العملية التي يتيح امتلاكها). هذا البعد النظري من شأنه أن يجعل المتعلم يملك، أو يسعى إلى امتلاك، نظرة شمولية إلى الأشياء والأفعال: نظرة غير شَذَرِيّة، لا يشغلها الآني والمستعجل عن التفكير في الآتي والمآل…
لقد تزامنت الحملة الافتراضية ضد ارتفاع أسعار المحروقات مع حرائق واسعة، لم تكتف ألسنة لهيبها بالتهام الغابات بأشجارها ووحيشها، بل امتدت إلى المداشر الآهلة، فأزهقت أرواحا وأتت على ممتلكات، في مشاهد قيامية؛ مشاهد تداولَها مُرتادو الشبكات الاجتماعية، الذين ينتمي أكثرهم إلى الطبقة الوسطى التي يتداول أفرادها الوسم الذي يدعو رئيس الحكومة إلى “الرحيل” بسبب غلاء أثمنة المحروقات!
فمن جهة، تطالب الطبقة المتوسطة بتمكينها من استعمال المزيد من المحروقات عن طريق تخفيض أسعارها؛ ومن جهة أخرى، وفي الوقت نفسه، تتباكى في تعاليق أفرادها على مشاهد الحرائق التي تتقاسمها في الشبكات الاجتماعية! تلك الحرائق التي تتسبب في إشعالها الغازات الدفيئة المنبعثة من المحروقات التي يطالبون بتخفيض أثمنتها! فهل يتعلق الأمر بخلل في التفكير يجعل بعض أفراد الطبقة المتوسطة لا يستطيعون الربط بين الأسباب والنتائج، أم أننا إزاء انفصام شخصية جماعي؟
عبر التاريخ، وفي مختلف المجتمعات، اضطلعت الطبقة المتوسطة بدور مزدوج: فهي، في آن واحد، عامل استقرار (ضمن الشروط التي تراعي مصالحها طبعا)، وعامل تغيير، بحكم قدرتها على إدماج المعطيات المستجدة وتبني عناصر التحول والتطور، بما يخدم وضعها الاجتماعي المتميز، باعتبارها القوة الاجتماعية المنتجة للأفكار والقيم وأنماط السلوك المرجعية… وبالنظر إلى هذه الوظيفة المركزية التي للطبقة المتوسطة في تشكيل المخيال الجماعي، فإنها تستطيع أن تستدمج الرهانات الجديدة التي تطرحها التغييرات المناخية الناتجة عن الفعل أو السلوك البشري، الفردي والجماعي.
لقد تجاوزنا مرحلة التوقعات؛ وصار المستقبل حاضرا: في صورة جفاف مزمن، وحرائق متواترة تأتي على الأخضر واليابس، وأمطار طوفانية لا تبقي ولا تذر. وكل هذا راجع إلى اختلال نظام المناخ بسبب الاحترار الناتج عن النشاط البشري؛ ومنه الاستهلاك المفرط للطاقات الأحفورية، بغير تفكير في النتائج والآثار. لقد صار بقاء الحياة أو انقراضها على كوكب الأرض مرتبطا ارتباط النتيجة بالسبب بسلوكنا الفردي في مجال البيئة. هذا ما لا يكف العلماء عن ترديده على مسامعنا منذ سنين، وبإلحاح خاص في الأعوام الأخيرة، بعد أن تأكد عيانا ما كانوا ينذرون به.
ومن المفروض أن الطبقة الوسطى تتوفر على الأدوات العقلية التي تتيح لها تلقي رسائل الإنذار المتكررة، الصادرة عن الهيئات العلمية ذات الاختصاص. وأقل ما ينتظر منها أن تمتنع عن الاستمرار في صب الزيت على النار! وذلك بأن تجعل من ارتفاع أسعار المحروقات وازعا وفرصة لتعديل سلوكها في مجال التنقل؛ بحيث تشرع في التقليص من استعمال السيارة إلا للضرورة. هذا على صعيد السلوك الفردي؛ وعلى مستوى الفعل المدني ينتظر منها أن تضغط في اتجاه سياسة حكومية صديقة للبيئة في مجال النقل. وذلك بحمل الحكومة على توفير وسائل لـ”التنقل المشترك” (mobilité partagée) تتو فر فيها شرو ط الراحة والأمان والانتظام؛ مع جعلها مجانية أو شبه مجانية لفئات عمرية واجتماعية معينة، في انتظار تعميم المجانية، تحفيزا على التخلي عن استعمال السيارة الفردية. وقد تعمدت استعمال مصطلح “التنقل أو التحر ك المشترك” مكان مصطلح “النقل العمومي” لارتباط نعت “عمومي” عندنا بالفقر والفقراء! (حتى إن “التعليم العمومي” صار مرادفا لـ”تعليم الفقراء”، و”النقل العمومي” مرادفا لـ”نقل الفقراء” (الذين لا يقدرون على شراء سيارة)! هذا، بينما نجد النقل المشترك في الدول المتقدمة ملتقى لكل فئات المجتمع: يستعمله الطالب والعامل والموظف “البسيط” و”المتوسط” و”السامي” وامرأة ورجل الأعمال؛ دون تحرج من هؤلاء ولا وَجَل من أولئك، ما دامت الغاية واحدة هي التنقل المريح، الآمن، المنتظم، الذي، فوق ذلك وقبله وبعده، يحترم البيئة، لكونه لا يسبب التلوث المنتج للأمراض: ولا الاحترار المحدث للجفاف والفيضانات والحرائق، كما نرى اليوم، وكما لن ترى البشرية غدا ما لم ترشد، لأنها ستكون قد انقرضت!
والتغيير يبدأ الآن، وليس غدا؛ بل كان يجب أن يبدأ من قبل! فمن العلماء من يرى أنه قد فات الأوان! لكن لنبقَ إيجابيين، ولْنعتبرْ أنه لا يزال في الإمكان المراهنة على المستقبل…
فليحل “هاشتاغ”: # توفير وسائل تنقل مشترك آمن ومريح ومنتظم وصديق للبيئة، مكان “هاشتاغ” 7 DHGASOIL# و # 8DH ESSENCE لأن ذاك يساهم في استمرار الحياة، وهذا يفضي إلى تدميرها.
تذييل
كاتب هذه الأسطر لا يملك سيارة وليس له رخصة سياقتها. يستعمل النقل العمومي بانتظام في البلاد وفي المهجر. آخر استعمال له في البلاد كان السنة الماضية خلال سفر بين الرباط والناظور في القطار: لن يعيد الكرَّة ما دامت شروط ذلك السفر قائمة.