يرى الاقتصادي والكاتب محمد شيڭر أن هناك ضرورة لمراجعة الهدف الذي حدده المشرع لبنك المغرب المتمثل في التضخم، ليس فقط لأنه هدف وهمي باعتبار أن هذا الأخير لا يمكن أن يتحكم فيه خارج ما هو نقدي، ولكن لأنه كذلك يرهن السياسة النقدية.
وذكر شيڭر، في مقال له بعنوان “التضخم.. هل من مزيد؟”، أن بنك المغرب مطالب بتبني هدف أو أهداف بديلة أخرى ذات جدوى، كمحاربة البطالة ومجابهة التحولات المناخية وتشجيع البحث العلمي وتطوير اقتصاد الحياة.
ويحلل الاقتصادي المغربي في مقاله تعامل الدولة بمؤسساتها مع التضخم ودور بنك المغرب ومجلس المنافسة في هذا الصدد، وينتقل لتحليل قدرة تحمل المستهلك ارتفاع الأسعار، حيث يلاحظ أن الارتفاع المضطرد لأسعار المحروقات لم يقابل بالاستنكار والتذمر نفسيهما مثل ما حدث مع الطماطم مثلاً.
ويفسر شيڭر قدرة تحمل المستهلك لارتفاع الأسعار باهتمام المغربي بمظهره الاجتماعي؛ بحيث يقول إنه من الصعب أن يتنازل عن انتمائه الطبقي وقد يكابد ليتحمل كلفة المحروقات حتى وإن وصل سعر اللتر الواحد إلى 20 درهماً.
وهذا نص المقال
التضخم.. هل من مزيد؟
يمكن اعتبار التضخم ضررا جانبيا من بين الأضرار الجانبية الأخرى لجائحة كورونا زادت من حدته الظواهر الطبيعية (الجفاف في بعض الأقطار والفيضانات في أقطار أخرى)، وتفاقم نتيجة النزاع الروسي الأوكراني. في المجمل، فالارتفاع العام للأسعار اجتاح العالم اجتياح كورونا له ليضاعف كلفة تحمل الجائحة ويكرس اللا يقين ويرفع من المخاطر التي تجابه الإنسانية برمتها. والظاهرة هاته كامتداد للأزمة الصحية تؤشر على:
الخروج من عولمة شربت كأس النيوليبرالية حتى الثمالة بعد أن استنفدت ما كان في جعبتها ولم يعد لها ما تقدمه لمروضيها وولوج عولمة معدلة مازالت ملامحها لم تنضح بالشكل المطلوب، وإن كانت عودة مفهوم السيادة إلى الواجهة وما يصاحبه من محلية وحمائية وإقرار بأهمية دور الدولة توحي بأن “السوق الشاملة” لم يعد لها محل من الإعراب.
انتقال الاقتصاد من مرحلة دامت أكثر من 30 سنة اتسمت باستقرار في الأسعار وتدنٍّ غير مسبوق في نسب الفائدة، إلى مرحلة ستعرف لا محالة اضطرابا مترددا في الأسواق، سيجعل التحكم في الأسعار أمرا ليس بالهين.
هذا المنحى إيذان بنهاية دورة كانت رحيمة بالمستهلك وبداية دورة قد يعاني فيها من لظى الأسعار وما يترتب عليه من تآكل قدرته الشرائية إن لم يتفاعل بالشكل المطلوب للحد-أو على الأقل للتخفيف-من تآكلها ولم تتحرك الدولة لإرجاع السوق إلى الجادة بلجم الأسعار الجامحة من خلال تفعيل الميكانزمات والأدوات المخصصة أساسا لمواجهة ظاهرة التضخم وما ينتج عنها من “تصحر اقتصادي”.
تحرك الدولة قد يختلف من قطر إلى آخر وتفاعل المستهلك قد يتباين من مجتمع إلى آخر، وهذا ما عايناه منذ اجتياح التضخم الجامح للعالم. هذه المعاينة هي موضوع ورقتنا هاته التي خصصناها لما سجلناه داخل المغرب من ردود فعل تختلف عن تلك التي صدرت في بلدان أخرى كفرنسا مثلا. فالدولة في المغرب وفئة عريضة من المستهلكين تعاملت مع التضخم بطريقة غير معهودة، طريقة قد يحتار أمامها المتتبع خاصة الاقتصادي منه الذي لا يولي للملاحظة الأهمية التي تستحقها.
سنحاول إبراز هذه الطريقة من خلال المنطق الضمني الذي اعتمدته الدولة في معالجتها للارتفاع العام للأسعار، خاصة منها تلك التي تخص المحروقات وسلوك المستهلك، خصوصا ذاك الذي ينتمي للطبقة الوسطى. لكن قبل التطرق لهاتين النقطتين، لا بد من الوقوف عند دور المؤسستين اللتين لهما علاقة مباشرة بالسوق بصفة عامة، وبالأسعار بصفة خاصة، ونعني بهما مجلس المنافسة والبنك المركزي (بنك المغرب)، لنتساءل عن مدى نجاعتهما في ضبط السوق والتحكم في التضخم.
1. مجلس المنافسة وبنك المغرب: أي فعالية في ضبط السوق والتحكم في الأسعار؟
أ. مجلس المنافسة: فقاعة من بين بعض الفقاقيع المؤسساتية
يعتبر مجلس المنافسة طبقا للفصل 166 من الدستور، هيئة مستقلة تتمتع بالشخصية الاعتبارية والاستقلال المالي، مكلفة بضمان الشفافية والإنصاف في العلاقات الاقتصادية. فالمجلس له سلطة تقريرية لضبط وضعية المنافسة في الأسواق وردع الممارسات المنافية لها التي غالبا ما تنعكس على الأسعار. والمجلس هذا ولد معطوبا، وعطبه من الصعب إصلاحه. فهو معطوب ذاتيا بالنظر إلى إطاره القانوني، ومعطوب موضوعيا بالنظر إلى طبيعة الاقتصاد المغربي الذي يعتبر اقتصادا مركبا تتعايش بداخله مجموعة من الاقتصاديات المهيكل منها وغير المهيكل والريعي والممنوع، ويتداخل فيه السياسي بالاقتصادي وما يترتب عنه من لوبيات يصعب مقاومتها وبالأحرى تجاوزها.
هذا الوضع يعقد مأمورية مجلس المنافسة ويجعل رصد الممارسات المنافية للمنافسة من الصعوبة بمكان لاقتصارها على الاقتصاد المهيكل بصفة عامة، وعلى قطاع الخدمات بصفة خاصة، الذي يتميز على مستوى فروعه بوجود عدد محدود من المتنافسين (الاتصال، والبنوك، والمحروقات، والتأمين …الخ)، مما يجعله أكثر عرضة للتفاهمات والتحايل على القانون. لهذا، فما دامت هذه المعوقات قائمة، فدور المجلس سيقتصر في آخر المطاف على تأثيث المشهد المؤسساتي وتلميع واجهته.
ب. بنك المغرب: الاستقلالية ورهان التحكم في التضخم
استقلالية بنك المغرب، ككل الأبناك المركزية التي توجد في نفس وضعيته، مرتبطة بإشكالية التضخم. هذا الارتباط ناجم عن اختزال الفكر الاقتصادي المهيمن (المتمثل في النيوليبرالية) للتضخم في النقد واعتبار هذا الأخير المصدر الوحيد للارتفاع العام للأسعار (مدرسة شيكاغو-ميلتن فردمان). بما أن هذا الفكر لا يتوجس الخير من الدولة ويعتبرها غير مؤهلة لتدبير الشأن الاقتصادي، فإنه يدعو بصفة عامة إلى كبح جماحها والحد بالتالي من تدخلاتها، ويحث بصفة خاصة على تمكين البنك المركزي من الاستقلالية حفاظا على قيمة العملة الوطنية وقوتها الشرائية، وتفاديا لسوء إدارة الحكومة لظاهرة التضخم، وتجنبا لتمويل الحكومة لما لهذا التمويل من آثار سلبية، خاصة على استقرار الأسعار. من هنا، فالحكومة لا دخل لها في صياغة السياسة النقدية وهي مطالبة، على مستوى السياسة الميزاناتية التي تدخل في اختصاصها، بالتقيد بالمعايير المعمول بها حفاظا على التوازنات الماكرو اقتصادية (3 في المائة من الناتج الداخلي الخام بالنسبة لعجز الميزانية و60 في المائة بالنسبة للمديونية)، بمعنى أن هامش تحركها ضيق جدا، فالمتوخى هو تكبيل الدولة حتى لا تعاكس السوق ولا تشوش عليها.
يختلف تعريف الاستقلالية من بلد إلى آخر ومن اقتصادي إلى آخر حسب درجة أرثدوكسية كل واحد ومدى تشدده. فقد تعني عند البعض انفصال البنك المركزي التام عن الحكومة “حرصا على إبعاد السياسة النقدية عن المصالح الضيقة لأعضاء الحكومة والبرلمان”، وكأن القائمين على السياسة النقدية في منأى عن الحسابات الضيقة والمصالح الفئوية. ولا يريدها البعض انفصالا تاما بين المؤسستين لكون البنك المركزي مجرد مؤسسة حكومية تندرج في الإطار المؤسساتي للدولة مهمتها صياغة السياسة النقدية وأجرأتها بكل استقلالية شريطة أن تكون متناغمة مع اختيارات الحكومة ومتناسقة مع سياستها الاقتصادية والمالية.
فيما يخص بنك المغرب، تشير المادة 6 من قانونه الأساسي إلى أنه “يحدد السياسة النقدية ويسيرها بكل شفافية في إطار السياسة الاقتصادية والمالية للحكومة. يعتبر الحفاظ على استقرار الأسعار هدف البنك. يحدد البنك هدف استقرار الأسعار ويسير السياسة النقدية” بعيدا عن أي تدخل خارجي. فالمادة 13 تنص على أن الوالي والمدير العام وأعضاء مجلس الإدارة لا يعملون في أي حالة من الأحوال بتعليمات الحكومة ولا يسترشدون بالضرورة بتوجيهاتها. لكن هذه الاستقلالية لا تمنع البنك من التشاور مع الحكومة لضمان انسجام السياسة النقدية مع السياسة الاقتصادية والمالية للحكومة.
هذه الوضعية تجعل علاقة البنك بالحكومة علاقة تكتنفها الضبابية إن لم نقل مبهمة. هل التشاور قبلي أم بعدي؟ بمعنى هل يأتي في إطار الإعداد لصياغة السياسة النقدية أم بعد صياغتها؟ إن كان قبليا فهذا يعني أن استقلالية البنك ليست استقلالية مطلقة، لكن الواقع يشير إلى غير ذلك، باعتبار أن الحكومة ليس من اختصاصها تحديد التوجهات الاستراتيجية. أما إذا كان التشاور بعديا، وهو ما نستشفه من قراءتنا للمادة 6، فالبنك يحدد السياسة النقدية على ضوء السياسة الاقتصادية والمالية للحكومة. في هذه الحالة ما الفائدة من التشاور خاصة وأن سياسة الحكومة تقتصر على بلورة التوجهات الاستراتيجية في الملموس؟
في الحقيقة، التجربة المغربية تجربة لها خصوصيتها إن لم نقل فريدة من نوعها، بالنظر إلى مقتضيات الدستور التي تعطي للملك كرئيس للدولة الصلاحية الكاملة في تحديد الاختيارات الكبرى للبلاد بصفة عامة، والتوجهات الاستراتيجية على المستوى الاقتصادي والمالي والنقدي بصفة خاصة. فأن يكون بنك المغرب مستقلا عن الحكومة فهذا أمر لمسناه من خلال الخرجات الصحافية للوالي وكذا من خلال استمرارية السياسة النقدية التي لم تحد ولو قيد أنملة عن مسارها رغم تعاقب الحكومات منذ أن أصبح البنك مستقلا. والتشاور هنا يصب لصالح البنك بالنظر إلى كون بنك المغرب مؤسسة استراتيجية واعتبارا لمكانته داخل النسيج النقدي والمالي والاقتصادي، إضافة إلى شخصية القائم عليه الذي يعترف له الجميع بحرفتيه. يمكن للبنك التشاور مع الحكومة من موقع قوة في الأمور ذات الطابع الإجرائي ومساعدتها على استيعاب التوجهات الاستراتيجية في ميادين اختصاصه أساسا، لكن البنك لا يمكنه أن يكون مستقلا عن الدولة، فهو جزء منها وأحد أدواتها المؤسساتية ومنها يستمد مشروعيته.
لا يجادل اثنان في كون بنك المغرب التزم إلى حد ما الأرثدوكسية فقاد سياسة نقدية مألوفة حتى لا نقول تقليدية توخى فيها الحذر وامتنع عن مجاراة الأبناك المركزية لبعض الدول كالولايات المتحدة واليابان وبريطانيا العظمى والاتحاد الأوروبي في اللجوء إلى التيسير النقدي، ليس فقط لأن الاقتصاد لم يكن في حاجة إلى مثل هذا التمويل غير المألوف، ولكن لاعتقاده أن التيسير النقدي هذا قد يؤدي إلى تضخم جامح يفقد استقلاليته نجاعتها ما دام الهدف المتوخى منها هو استقرار الأسعار والتحكم بالتالي في التضخم. وهنا مربط الفرس.
إن تعاقب الحكومات وما صاحب هذا التعاقب من أحداث خلال الخمس عشرة سنة الأخيرة (أزمة 2008 والربيع العربي والجائحة والتضخم…الخ) لم يغير في شيء السياسة النقدية لأسباب موضوعية تتجلى في طبيعة الاقتصاد المغربي وفي الالتزامات الدولية للمغرب ووضعية الاقتصاد العالمي الذي رسخ اعتقاد بنك المغرب -كسائر الأبناك المركزية- بأن المصدر الوحيد والأوحد للتضخم هو النقد، الشيء الذي جعله يتوهم بأنه يتحكم في التضخم دون أن ينتبه إلى طبيعة المرحلة التي اتسمت بتضخم زاحف (في حدود 2 في المائة في المتوسط) أو بلغة مبسطة باستقرار الأسعار في المجمل نتيجة عوامل موضوعية خارجة عن نطاق الأبناك المركزية، الشيء الذي ساعد إلى حد كبير على تحقيق نسبة نمو إيجابية.
كما غاب على البنك أن التضخم بالمفهوم النيوليبرالي يشكل كعب أخيل بالنسبة لهذا الفكر. صحيح أن البنك المركزي له من الأدوات ما يساعده على التصدي للتضخم النقدي، لكن الأصح هو أن لا حول ولا قوة له أمام التضخم الناتج عن أسباب غير نقدية. ما عسى بنك المغرب فعله أمام التضخم المستورد أو التضخم الناجم عن أوضاع مناخية أو عن نزاعات جيو-استراتيجية أو مضارباتية؟ ما لاحظناه هو انكماش البنك. فبعدما كان كلامه من فضة أصبح صمته من ذهب. كان عليه أن يتحرك مادام قانونه الأساسي ينص بصريح العبارة على أنه المسؤول على استقرار الأسعار، فيتشاور مع الحكومة حول التدابير التي يجب اتخاذها لمجابهة تضخم جامح خارج على السيطرة قد يستمر لمدة وقد تتراوح نسبه فيها داخل مجال أدناه 3 في المائة وأقصاه 10 في المائة.
من المفارقة أن استقلالية البنك تجعل الحكومة مطالبة بتبني سياسته النقدية والالتزام بها، بل وتحمل مسؤولية تبعاتها مادامت خاضعة للمحاسبة خلافاً لوالي البنك المركزي. فالحكومة هي التي ستحاسب على تآكل القدرة الشرائية للناخبين. الاستقلالية هنا تتعارض والمنطق الديمقراطي، لكون السياسة النقدية تصاغ على هامش المسلسل الانتخابي ودون أن يقول الناخب رأيه فيها. بالإضافة إلى هذا، الاستقلالية تقلص هامش مناورة الحكومة بحرمانها من التحكم في السياسة النقدية واقتصارها على السياسة الميزانياتية وتطرح بحدة إشكالية التنسيق بين السياستين. زيادة على هذا، استقلالية البنك المركزي لها كلفة تتحملها الحكومة على مستويين كمي وكيفي. فعلى المستوى الأول، الأرثدوكسية النقدية تدفع بالبنك المركزي إلى عدم مجاراة الحكومة لتمويلها مباشرة وتخفيف عبء خدمة مديونيتها واتباع سياسة نقدية أكثر ليونة. أما على المستوى الكيفي، فيمكن للاختلاف في الأولويات أن يؤدي إلى تعارض بين السياسة النقدية والسياسة الاقتصادية والمالية للحكومة. فتثبيت استقرار الأسعار مثلاً كأولوية بالنسبة لبنك المغرب وإقراره على مستوى القانون الأساسي يقيد البنك وقد يعاكس توجهات الحكومة في حالة ما إذا كانت هذه التوجهات تهدف إلى محاربة البطالة مثلا.
إن ما جاءت به الجائحة من دروس وما يمكن استنتاجه من ظاهرة التضخم التي تجتاح العالم حاليا يطرح بإلحاح إعادة قراءة محددات السياسات النقدية والمالية والاقتصادية المتبعة وتقييمها على ضوء الإرهاصات الأولية لاقتصاد ما بعد الجائحة والمؤشرات التي تدل على أن العالم مقبل على تشكيل نظام دولي جديد. في هذا الإطار، لا محيد عن مراجعة الهدف الذي حدده المشرع لبنك المغرب المتمثل في التضخم، ليس فقط لأنه هدف وهمي باعتبار أن هذا الأخير لا يمكن أن يتحكم فيه خارج ما هو نقدي، ولكن لأنه كذلك يرهن السياسة النقدية. إن بنك المغرب مطالب بتبني هدف أو أهداف بديلة أخرى ذات جدوى، كمحاربة البطالة ومجابهة التحولات المناخية وتشجيع البحث العلمي وتطوير اقتصاد الحياة. هذه المراجعة تفترض إعادة النظر في مفهوم الاستقلالية بتخليصه من الشحنة الأيديولوجية التي شحنه بها الفكر النيوليبرالي وبإخضاعه لتمحيص موضوعي على ضوء الواقع الاقتصادي للبلاد وبارتباط مع ما يتوخى من الآلية التنفيذية من جدية وفعالية.
الحكومة وارتفاع أسعار المحروقات: رب نقمة في طيها نعمة
مع بداية ارتفاع أسعار المحروقات وتواتره ارتفعت أصوات تدعو إلى إعادة إدماج المحروقات في صندوق المقاصة، مطالبة الحكومة بتحمل مسؤوليتها في الحفاظ على القوة الشرائية للمواطنين ومحفزة إياها على الإسراع بمحاصرة هذا الارتفاع لما لأسعار هذه المواد من تأثير على ميزانية الأسر وكذا على عوامل الإنتاج، وما قد يترتب عليه على مستوى التماسك الاجتماعي من عواقب وخيمة. لكن هذه الأصوات اصطدمت بنوع من اللامبالاة وبانتقائية في معالجة الحكومة لهذه الإشكالية؛ حيث اكتفت بتخصيص دعم محدود لقطاع النقل خلافا لما أقدمت عليه بعض الدول الأوروبية كفرنسا. كيف يفسر هذا النهج؟
المقاصة ليست الحل لسبب بسيط يتعلق بنظام المقاصة نفسه الذي لم يعد له من المقاصة إلا الاسم لكونه أصبح نظام دعم يندرج في إطار ميزانية الحكومة. المقاصة تعني التعويض، ذلك أن المواد التي يشملها نظام المقاصة تعوض بعضها البعض لضمان توازنه. فالمواد التي تعرف فائضا ممثلا في الفرق بين ثمن بيع هذه المواد وثمن اقتنائها تغطي عجز المواد التي توجد في وضعية مخالفة. وكل ما يزيد عن هذه التغطية يوفر لمجابهة السنوات العجاف.
كذلك الدعم ليس الحل بالنظر إلى وضعية ميزانية الحكومة الهشة، وإلى ما يتطلبه هذا الدعم من مبالغ ضخمة على ضوء تواتر ارتفاع أسعار المحروقات. يكمن الحل الآني في الرسوم المطبقة على المحروقات والتزام شركات التوزيع بتقليص نسبي لهامش ربحها عند الضرورة. هذان العاملان يشكلان بدرجة متفاوتة أداة تعديل أسعار المحروقات. فالحل إذن يكمن في التعديل وليس في المقاصة أو الدعم.
وللتوضيح أكثر، يمكن للحكومة أن تحدد ثمنا مرجعيا لكل من الغازوال والبنزين. كل زيادة على المبلغ المرجعي تعفى كليا من الرسوم التي تتراوح نسبتها ما بين 35 في المائة و44 في المائة وهامش الربح فيها يقلص بنسبة متوافق عليها (5 في المائة مثلا). على هذا الأساس يحدد مفتاح توزيع عبء الزيادة على الأطراف الثلاثة: المستهلك ما بين 50 و60 في المائة والدولة ما بين 35 و45 في المائة وشركات المحروقات 5 في المائة. وهكذا فالثمن في محطة الوقود يحسب على الشكل التالي: السعر المرجعي + الزيادة صافية من الرسوم – 5 في المائة من هامش الربح على مستوى الزيادة. ما الذي يمنع الحكومة من التعديل النسبي لأسعار المحروقات؟
للجواب على هذا السؤال، لا بد من التذكير بأن منطق الحكومة منطق محاسباتي. كلما ارتفع صبيب مداخلها حاولت الإبقاء على مصدر هذا الارتفاع. في الحالة التي نحن بصددها، إذا كان ارتفاع سعر المحروقات نقمة على المستهلك فهو نعمة على خزينة الدولة. كلما امتدت هذه “النعمة” وطالت ولسان حال الخزينة يقول: هل من مزيد، كانت بردا وسلاما عليها. للإشارة، دوام هذه “النعمة” رهين بالوضع العالمي بصفة عامة وبقدرة تحمل المستهلك بصفة خاصة. مادام المستهلك قادرا على التحمل فما الداعي بالنسبة للدولة للتعديل. حسب بعض المحللين قد يصل سعر الغازوال إلى 20 درهما أو أكثر بقليل. يبقى أن نتساءل: ما هو السعر العتبة الذي يستنفد قدرة المستهلك المنتمي خاصة للطبقة الوسطى على التحمل؟ وما الذي يفسر تحمله إلى حد الآن زيادة قاربت أو تجاوزت 50 في المائة؟
الطبقة الوسطى وارتفاع أسعار المحروقات: ” الفيل خاصو فيلة”
لاحظنا كيف تقبل المستهلك بمختلف أطيافه ارتفاع أسعار بعض المواد الأولية، خاصة ثمن الطماطم، بالاستنكار والتذمر، وكيف سارعت الحكومة إلى احتواء هذا التذمر. بالموازاة، الارتفاع المضطرد لأسعار المحروقات لم يقابل بالاستنكار والتذمر نفسيهما. بقدر ما أسمع قطاع النقل صوته مطالبا إما بالسماح له بمراجعة أثمنة النقل أو الاستفادة من دعم عمومي، بقدر ما تحمل أرباب السيارات الخاصة الذين ينتمون في غالبيتهم إلى الطبقة الوسطى ومازالوا الزيادة على مضض لا شك فيه، ولكن دون اللجوء إلى الضغط على الحكومة لتخفيف عبء الغلاء. والنتيجة، استجابت إلى حد ما الحكومة إلى طلب قطاع النقل بتخصيص دعم اعتبره البعض غير كاف، بينما اعتبرت الحكومة على لسان الناطق الرسمي باسمها أنه ليس من المنطق في شيء دعم مستهلك يستعمل سيارته لأغراض شخصية.
ما أثار الانتباه هو أن هذه الطبقة الوسطى التي كنا نندب حظها ونشفق عليها لما تحملته من أعباء نتيجة تحرير قطاعي التعليم والصحة ورفع الدعم عن المحروقات ناهيك عن الوزر الضريبي، أظهرت قدرة على التحمل لم نكن نتوقعها. هذه القدرة تثير الحيرة وتطرح أكثر من نقطة استفهام. ترى هل الطبقة هاته ميسورة إلى حد التعامل مع التضخم بنوع من عدم الاكتراث؟ حافظت “حليمة” على عادتها القديمة فلم تغير سلوكها ولم يصدر منها ما يشير إلى أنها تسعى إلى التخفيف من انعكاسات الارتفاع المهول لأسعار المحروقات كما هو الشأن بالنسبة لمثيلاتها في أوروبا الغربية، وخاصة في فرنسا حيث لجأت فئة منها إلى التنقل جماعيا باستعمال سيارة خاصة واحدة بدل ثلاث أو أربع سيارات، واختارت فئة أخرى النقل العمومي، بينما فضلت فئة ثالثة الاستعانة بالدراجة الهوائية. هل الاختلاف يكمن في الذهنية؟ تراها خنوعة فلم تجد بدا من الإقرار بأن “الفيل خاصو فيلة” أم إنها بحت من كثرة الصراخ فلم يعد يسمع صوتها أم إن السوق يسكنها بعد أن ارتوت من معين الليبرالية المتوحشة. كيف يمكن إذن تفسير سلوك هذه الطبقة؟
هناك تفسير عام يخص طبيعة الطبقة الوسطى كشتات لا وعيَ طبقيًّا لديه. فهي تتميز بالانتهازية وتلتزم بالمثل المغربي “كل شاة تتعلق من كراعها”، همها الارتقاء الاجتماعي وطموحها الالتحاق بالطبقة الغنية. على هذا الأساس فتعاملها مع ارتفاع الأسعار بصفة عامة، والتضخم بصفة خاصة، يميل إلى تعامل الفئات الميسورة مع هذه الظاهرة ويختلف نسبيا عن تعامل الفئات المستضعفة. بالرجوع إلى هرم المواد الاستهلاكية (أو ما أسميه بهرم الغزالي) التالي، المكون من أربع طوابق: الضروريات والحاجيات والمستحسنات والكماليات:
نلاحظ أن أي ارتفاع في أسعار الضروريات له وقع كبير على المجتمع برمته؛ حيث يقابل بتذمر واستنكار كبيرين وقد يؤدي إلى ما لا تحمد عقباه كما حدث في بداية الثمانينات من القرن الماضي (انتفاضة الخبز). هذا الوقع يتناقص كلما انتقلنا من طابق إلى طابق أعلى ليختفي تماما عند قمة الهرم مع تقلص تدريجي في عدد المستهلكين. فارتفاع أسعار الحاجيات يزعج المستهلك لكن ليس بالحدة نفسها مقارنة مع ارتفاع أسعار الضروريات، لأن قدرة التحمل تزداد كلما صعدنا الهرم ليصبح السعر مؤشرا اجتماعيا وأحد المعطيات الأساسية في تشكيل هرم الغزالي وتراتبية المجتمع.
في هذا الصدد، مفهوم قدرة التحمل يفقد الكثير من وجاهته انطلاقا من الحاجيات ليصبح غير صالح عند القمة، فكلما ارتقى المستهلك اجتماعيا وتحسن دخله زادت قوته الشرائية وارتفع نزوعه إلى الاستهلاك قبل أن يبدأ في الانحدار. فالطبقة الوسطى أكثر نزوعا إلى الاستهلاك من الطبقتين العليا والسفلى. لهذا السبب توصف بكونها المحرك الأساسي للاقتصاد. هذه الخاصية تجعلها أكثر استعدادا للتحمل من الفئات ذات الدخل المحدود في محاولة منها للحفاظ على مستواها المعيشي وتكريس وضعها الاجتماعي والإبقاء على حلمها الطبقي، وذلك بتوظيف ما يتوفر لها من وسائل كالتوفير والاقتراض واستغلال موقعها الاجتماعي. يمكن في إطار هذا النسق ملامسة بعض خصوصيات الطبقة الوسطى المغربية.
من بين العناصر التي يستند إليها البعض لتعريف الطبقة الوسطى المغربية، هناك الدخل الشهري. ويحدد البعض هذا الأخير في 6000 درهم للفرد الواحد كحد أدنى وفي 10.000 كحد أقصى. هذا المستوى من الدخل لا يضمن للفرد الذي يعيش في المدن الكبرى كالدار البيضاء والرباط مستوى معيشي يليق بطبقة وسطى بالمفهوم الاقتصادي بالنظر إلى كلفة المعيشة بهاتين الحاضرتين. ففي أحسن الأحوال، الحد الأقصى من الدخل المشار إليه أعلاه يجعل صاحبه من الفئة التحتية لهذه الطبقة ويضعه على الحافة الفاصلة بين طبقته والطبقة التحتية. قد يقول قائل إن دخل أغلبية الأطر، سواء المحسوبة على الوظيفة العمومية أو تلك التي تشتغل في المقاولات والتي تنحو منحى الطبقة الوسطى، يقارب أو يزيد بقليل عن الحد الأقصى المشار إليه أعلاه. وقد يضيف هذا القائل ملاحظا، إن هذه الشريحة هي التي لم تحد في المجمل عن سلوكها وأبانت عن قدرة تحمل تثير الإعجاب والاستغراب في الوقت نفسه. الملاحظة في محلها مادامت مقاربة الطبقة الوسطى مقاربة مبنية على دخل الفرد، لكن إذا غيرنا عامل المقاربة من دخل الفرد إلى دخل الأسرة فقدرة التحمل ستتضاعف وسيتبين لنا أن الدخلين الأدنى والأقصى سيساويان على الأقل ضعفي الدخلين الأدنى والأقصى للفرد. يعود هذا إلى جنوح الفرد المحسوب على الطبقة الوسطى إلى الاقتران في الغالب بشخص من طبقته. لهذا تعريف الطبقة الوسطى على أساس الدخل لا يستقيم إلا إذا أدخلنا في الحسبان دخل الأسرة.
أضف إلى هذا، وجود عوامل أخرى لا يجب غض الطرف عنها لتحديد الطبقة الوسطى بالمغرب. من هذه العوامل هناك من جهة الانتقال الديمغرافي الذي أدى بالطبقة الوسطى إلى تبني الأسرة النووية دون التخلص من “إكراهات” الأسرة الممتدة، ومن جهة أخرى العامل الثقافي المرتبط بالذهنية أو العقلية المغربية. إن الثقافة المهيمنة تولي اهتماما خاصا للمظهر على حساب الجوهر وتعطي الأسبقية للاصطناعي بدل الطبيعي وللزائف بدل الدائم. فبجانب كونه مجتمعا شفاهيا (وهذه الخاصية من الأسباب التي تفسر العزوف عن الكتابة بصفة خاصة والقراءة بصفة عامة)، فالمجتمع المغربي مجتمع مظهري، لا يهمه المضمون بقدر ما يهمه الشكل، ولا يهمه اللب بقدر ما تهمه القشرة. فهو يتشبث بالمظهر مهما كلفه ذلك. لهذا، من الصعب أن يتنازل المغربي على مظهره الاجتماعي فيغير مؤشرات أو أعراض انتمائه الطبقي. لذا، فقد يكابد ويتحمل كلفة المحروقات حتى وإن وصل سعر اللتر الواحد إلى 20 درهماً أو ما فوق. الأولوية لميزانية المظهر حتى وإن تطلب ذلك إخضاع ميزانية الجوهر للتقشف. فإذا كان المغربي قد أسقط من حساباته كل ما هو ثقافي (اقتناء الكتب التردد على المسرح والسينما وزيارة المتاحف…)، فقد يراجع أمام هذا الوضع مصاريف ما هو ضروري على أساس المثل المغربي “فوت (دوز) على عدوك جيعان وما تفوت عليه عريان”.
في الختام، إذا تغاضت الدولة عن خاصيات الطبقة الوسطى وبقيت متمسكة بالمنطق المحاسباتي عوض المنطق السوسيو-اقتصادي، فإن الاقتصاد سيضيع في أحد أهم محركات الطلب الداخلي، كما أن المجتمع سيفقد أهم نابض اجتماعي يساعد على التخفيف من انعكاسات اللامساواة الاجتماعية لكون مكونات الطبقة الوسطى صناديق ضمان اجتماعي متحركة؛ ذلك أنها تولي الأهمية للتضامن الأسري، وسيفتقد العنصر الاجتماعي الأكثر استعدادا للانخراط في التغيير والالتزام بالإصلاحات التي تدفع في اتجاه الارتقاء المجتمعي والاجتماعي.