عامٌ طوي منذ رحيل المفكر والأكاديمي المغربي محمد سبيلا، الذي عرف بكتاباته وحواراته وترجماته المدافعة عن “العقل والحداثة”.
هذا العلَم الراحل طبع مسارات أجيالٍ من دارسي الفلسفة بالجامعة المغربية، ومسارات قراء للكتب والصحف، كما طبع وعي متابعين للنقاش الثقافي والسياسي بالمغرب والعالم العربي.
مشروع سبيلا الفكري كان الوعي بالحداثة والحاجة إليها، ومن بين المحطات التي شرح فيها معنى “الحداثة بالمغرب” أو سيرورة الوعي بالحاجة إلى “الاختيار التحديثي” بالبلاد محطة فارقة في تاريخ المغرب الراهن، جاءت بعد أحداث 16 ماي 2003 الإرهابية.
بعدما راج، رسميا وفي النقاش العمومي، شعار “المغرب الديمقراطي الحداثي”، نبه سبيلا إلى “واجب المثقفين المغاربة في تحليل هذا الشعار وفحص مكوناته، والمساهمة في تطوير الوعي المغربي، في اتجاه ضبط أكبر وتوضيح أكبر لعناصر هذا المشروع في مكونَيه الأساسيين: الحداثة والديمقراطية”.
وقدم سبيلا الحداثة بوصفها “اختيارا إستراتيجيا عاما”، الديمقراطيةُ هي “تجسيده السياسي”، مع استدراكه قائلا إن “الانتقال من الشعار إلى التحليل والتفكير يتطلب جهدا فكريا وعقليا كبيرا للتفكير في مقولات جديدة انبثقت ضمن التحولات والمخاضات الكبيرة لسيرورة الفكر الكوني”.
وتابع المفكر: “من المهام المطروحة على الفكر المغربي اليوم أن يعمق التفكير في الحداثة التي هي اليوم شعار “المشروع المجتمعي” الذي تلتف حوله كل من الدولة والنخب العصرية والأحزاب والقوى الحية في بلادنا”، قبل أن يسجل أن من المطروح على “الأحزاب والقوى ذات الاختيار التحديثي” أنْ تعلم أن “الحداثة ليست وصفة فكرية جاهزة أو “تصميما خماسيا” يتعين تطبيقه؛ بل هي عناء فكري وجهد عقلي فردي وجماعي ضد الذات أساسا من أجل التخلص من مجتمع وثقافة عصور الانحطاط، وبناء مجتمع وثقافة حديثة انطلاقا من تطوير النويات العقلانية والتنويرية في تراثنا العربي الإسلامي”.
وأكد محمد سبيلا أن “الاختيار التحديثي” في المغرب، ليس غريبا، بل هو نابع، بالجملة؛ “من ضرورات تاريخنا وتجربتنا كأمة”، ورواده الأوائل “نخبة من المثقفين والمصلحين السياسيين والفقهاء من أمثال السليماني، والكردودي، والحجوي، والعربي العلوي، وعبد الكريم الخطابي، وعلال الفاسي، وبلحسن الوزاني (…) عبد الله إبراهيم، وعبد الهادي بوطالب، ومحمد عابد الجابري، وعبد الله العروي”.
هذه النخبة استشعرت “بوعي تاريخي حاد، ضرورة الانخراط في العصر؛ فالاختيار التحديثي استجابة ذاتية لتحديات العصر، تبلور بتواز مع الصدمة الاستعمارية التي أيقظت الوعي والحس الوطنيين”، وهو اختيار كان في لحظاته الأولى “مجرد اختيار مبدئي، بدأ يتبلور وتتضح معالمه وعناصره وتفاصيله مع تعمق التجربة التاريخية؛ ومع نمو الوعي التاريخي المغربي وتطور الفكر التحليلي في مجال الاجتماعيات والإنسانيات”.
هذا الاختيار “النابع من صلب ثقافتنا ووعينا الوطني” ظل، في قراءة سبيلا، “اختيارا متوازنا، ولم تصحبه أو تنبثق منه دعوات متطرفة ضد تراثنا الديني والفكري وحمولتنا التاريخية؛ إذ لم يشهد تاريخ المغرب الحديث ظهور حركات علمانية متطرفة. فباستثناء بعض الانعكاسات الحركية لبعض فصائل اليسار والأفكار العالمثالثية بين الستينات والثمانينات، فإن هذا التوجه سرعان ما اندغم في صلب الوعي التاريخي الوطني المتقدم ولم يترك تراثا فكريا يرسخ هذه التوجهات”.
واستدرك سبيلا قائلا: “صحيح أنه ظهر في تلك الفترة الاتجاه التاريخاني الذي هو دعوة إلى تبني رؤى حداثية عقلانية وتاريخية ونقدية للتراث، ودعوة إلى تمثل ثقافة الحداثة والتركيز على أن التطور والتقدم لا يمكن أن يتحققا عبر مداعبة أشباح الماضي ولوك الأوهام المرتبطة به”؛ إلا أن هذا الاتجاه “بلور، بالمقابل، رؤية فكرية قوامها ضرورة الفحص النقدي لتراثنا وثقافتنا، وتخليص وعينا من الأوهام الذاتية، وتبني إرادة التحديث والتقدم، باعتماد العلم والتقنية والعقلانية والديمقراطية وكافة آليات الحداثة”.
وانتقد سبيلا محاولة “المطابقة التامة” بين “الحداثة وبين إنكار المقدس”، واصفا إياه بـ”التعارض المفتعل بين الدين والحداثة”؛ وكتب: “التجارب التاريخية لشعوب وثقافات أخرى تبين أنه باستثناء النموذج الفرنسي الذي تميز بالتعارض القوي بين السلطتين الدينية والسياسية، فإن مختلف إيديولوجيات الحداثة (الأنوار الإنجليزية والأنوار الألمانية) ومختلف أنماط وتجارب الحداثة (النموذج الإنجليزي والنموذج الأمريكي) تميزت بعدم التصادم والعداء بين الحداثة والدين”.
وواصل سبيلا شارحا: “بل إن سوسيولوجيات الحداثة تثبت أن الحداثة هي دينامية داخلية تنبثق من صلب التراث الثقافي والديني، كما هو الأمر بالنسبة للحداثة الأوروبية نفسها”.
كما انتقد سبيلا الحديث عن الحداثة “كما لو كانت مجرد مصطلح لغوي أو مجرد فكرة أو ممكن ذهني خالص يفعل به صاحبه ما يشاء”، وتصور الحداثة بوصفها “قاطرة نركبها جميعا بغض النظر عن وعينا بذلك أم لا، وبغض النظر عن نوع ودرجة رد فعلنا الفكري على ذلك”؛ فهي، وفق سبيلا؛ “اختيار فكري تفرضه الضرورة علينا بدرجات متفاوتة”.
ورصد سبيلا، في مطلع القرن الحادي والعشرين، “نقاشا فلسفيا عميقا يجري بهدوء في الساحة الفكرية والأكاديمية المغربية” حول الحداثة، “بمنطق فلسفي وعقلاني؛ انطلاقا من الاختيار الفكري التحديثي الواضح”؛ وهو “حوار فكري حقيقي وعميق حول الأسس الفلسفية للحداثة”، تسهم تصويباته في “تخليص الحداثة من إيديولوجيتها، وفي حمايتها من انزلاقها إلى الأسطورة، وفي تنبيهها إلى المسكوت عنه والمضمر وإلى مناطق العتمة وأشكال الاستعمال المضاد”.
أهمية هذا النقاش وملاحظاته تتجلى، بالنسبة إلى المفكر الراحل محمد سبيلا، في “توسيع (…) مفهوم العقل والعقلانية ليشمل مقصياته ومطمراته وبياضاته” وفي “تنسيب الدعاوى التحررية للحداثة، وفي تنسيب البشائر الخلاصية للديمقراطية”.