هوية بريس – إبراهيم الطالب
تعيش الأمة الإسلامية اليوم حالة فريدة من نوعها، فلم يعد مطلوبا منها فقط أن تتخلى عن ثرواتها ومعادنها، فهذا كان في الحملات الامبريالية الأولى خلال القرنين 19 و20، أما اليوم فقد تكالبت عليها الأمم بالضغط والحرب وبكل وضوح وصراحة من أجل أن تتخلص من هويتها الإسلامية، ومن أجل أن تتنازل عما بقي لديها من خصوصياتها التي مكنتها من قيادة العالم لقرون مديدة.
فالإسلام في نظر الغرب مهدِّد لاستمرار الاستغلال الغربي لخيرات شعوبنا وبلداننا، لذا لا يصرحون بحربه، ويتوارون خلف محاربة التطرف والإرهاب.
بل الإسلام حسب الدراسات الغربية يعتبر المهدد الأكبر للحضارة الغربية التي أرست قواعدَها الرأسماليةُ في بُعدها الليبرالي المتوحش، والذي يعادي كل القيود مهما كانت مقدسة عند أصحابها، حيث ينظر إليها بمثابة موانع تضعف من رواج بضائعه، وتضر بأسواقه، وتحد من استهلاك الناس لمقذوفات مصانعه الكبرى.
لذا، فالدول الرأسمالية العظمى تتدخل في تفاصيل الحياة الاجتماعية والدينية للشعوب، من خلال المنظمات التابعة لأممها المتحدة على الشعوب الضعيفة، بدعوى التمكين لحقوق الإنسان والحريات الفردية والعامة، وتضغط على حكومات الدول النامية ومنها كل الدول الإسلامية حتى تخضع لمنظورها اللاديني للكون والإنسان والحياة، ويشمل هذا الصراع الجاري حول المدونة في المغرب.
فهل هذه الدول الكبرى تريد فعلا الخير لشعوبنا؟؟
وهل تريد فعلا أن نعيش أحرارا عتقاء من الاستبداد؟؟
أظن بعد أحداث غزة والإبادات التي عرفها المسلمون على أيدي الدول الديمقراطية، لم يبق هناك عاقل تنطلي عليه هذه الدعاوى المخدرة لعقول السذج.
لقد أضحى واضحا أن الحرية التي يريدونها لنا، هي حرية الاستهلاك، التي تجعلنا نحن المسلمين مجرد مليارين من الأفواه المفتوحة على الدوام لاستقبال منتوجاتهم التي تصنع بثروات شعوبنا المنهوبة بالتواطؤ مع الاستبداد والظلم.
وهل نحتاج بيانا لما سلف بعد أن تابعنا مسلسل الديمقراطية في مصر مثلا، حيث تم خلع الرئيس العسكري المستبد حسني مبارك بعد ثورة سلمية اضطر معها إلى التنحي عن ملك مصر، ثم اعتلاه أول رئيس مصري منتخب غير عسكري في تاريخ مصر الدكتور محمد مرسي رحمه الله، والذي لم يلبث أن انقلب عليه العسكر بدعم خليجي وتواطؤ غربي، أدى إلى سجنه وتصفيته جسديا.
ذلك التواطؤ سرعان ما تطور ليصير شراكة مكشوفة أبادت كل الوجود الإسلامي على كراسي الحكم أو السياسة، وفي هذا السياق كانت الحرب في اليمن وليبيا وغيرها من البلدان التي نشرت فيها أمريكا “الفوضى الخلاقة”.
المهم هو أن القاسم المشترك بين الصهاينة والمتصهينين العرب والدول الإمبريالية المتصهينة يتمثل في أربعة أمور:
1- معاداة الإسلام والتشكيك في ثوابته.
2- منع عامليه من الوصول إلى كراسي الحكم.
3- محاربة رموزه وتشويه قادته.
4- خلق دين جديد للمسلمين.
على أن مشروع اختراعَ دينٍ جديد للمسلمين ليس من نسج الخيال، وإنما هو مخطط انطلق منذ قرابة العشرين سنة، حيث تداولت كثير من المصادر في السنوات الأولى لقيام الحرب العالمية ضد الإرهاب، تصريح رئيس وكالة المخابرات الأمريكية الأسبق “جيمس وولسي” في عام 2006: “سنصنع لهم إسلاما يناسبنا”.
إسلام لا روح فيه ولا معنى، إسلام لا يتعارض مع العلمانية والليبرالية.
ويشهد لهذا الذي قيل تجنيدُ شبكات مؤلفة من الكتاب والمدونين، تشكك في الثوابت والعقائد القطعية والأحكام الشرعية الثابتة، بل تخصصت منابر ومؤسسات علمانية طيلة 20 سنة ويزيد في تحطيم الثوابت، ولعل أبرزها مؤسسة مؤمنون بلا حدود، بأموال الخليج والإمارات على وجه التحديد.
ثم توالت هذه الحرب الممنهجة لتتوج بأكبر مشاريع الصهاينة ألا وهو إخراج مشروع الدين الجديد إلى حيز الوجود، مشروع يذيب الفوارق بين اليهودية والنصرانية والإسلام، يدعو إلى التسامح والتعايش ظاهريا، وينسخ عقائد المسلمين عمليا، ويفككها حتى يُوَرث الخنوع والخضوع للأجيال الناشئة، فيقبلوا باليهودي والنصراني المحتل حاكما، دون أن يحسوا بواجب مقاومته وجهاده كما حصل في الحملات الإمبريالية الأولى.
فالدين الجديد الذي تم صنعه في المعامل السياسية والفكرية الصهيونية، هو ما سماه أصحابه بالديانة الإبراهيمية، تَجمع اليهود الذين يقولون عزير ابن الله، إلى جانب النصارى الذين يقولون المسيح ابن الله، مع المسلمين الموحدين الذين ينتقض إيمانهم إذا أقروا بما تقول به اليهود والنصارى من عقائد شركية.
ويبدو أن هذه المخططات بلغت المغرب، حيث يمكن اعتبار ما حصل في رمضان الجاري جزءا منها؛ إذ احتضنت الزاوية البودشيشية إفطارا بين نخب وممثلين للأديان الثلاثة، برئاسة المستشار الملكي، الذي اعتبر ضمن كلمته أن “هذا الحفل الذي يجمع كل هذه المشارب يعكس تمغربيت”، مؤكدا أنه “يبعث رسالة إلى العالم أجمعه حول التعايش الموجود بالمغرب”.
ثم أعرب المستشار اليهودي عن مشاعره قائلا: “نحن فخورون بهذا الأمر وفي يوم مقدس، أن نوجه رسالة إلى العالم نؤكد من خلالها على التعايش الموجود”.
عشنا وشفنا يهوديا يعلمنا تمغربيت، علما أن التمغربيت الجديدة لا علاقة لها بهوية المغرب ولا بتاريخه، وإنما هي خدعة للقبول بالجنود الصهاينة من أصل مغربي الملوثة أيديهم بالدم الفلسطيني الزكي.
كما تحدث أيضا خلال هذا “الإفطار” رئيس الجمعية المغربية لقادة الألفية، التي نظمت هذه الدورة، مروان حجاجي الإدريسي ليبين أنه “على الرغم من كون المغرب دولة إسلامية، إلا أنه يبقى أرضا للتعايش والانفتاح”، معربا أن المغرب “أرض مفتوحة على جميع الديانات”.
ولعبارة: “على الرغم من كون المغرب دولة إسلامية “دلالة عميقة تشي بالكثير ولا داعي للإطالة.
ولنا أن نتساءل هل يندرج هذا النشاط ضمن مقدمات التمكين للديانة الإبراهيمية في مغرب العلويين؟؟
وهل هذا الحدث وأمثاله من الأحداث المثيرة للجدل، هو تنفيذ لرؤية اللجنة العليا للأخوة الإنسانية (HCHF)؟؟
هذه المنظمة التي أنشئت لتعزيز قيم الأخوة الإنسانية لغرض تعزيز السلام بين الأفراد والمنظمات والأمم، -حسب تصريحات منشئيها-.
والعجيب أن دولة الإمارات التي لها وزير للتعايش والتسامح والتي تمول مثل هذه المؤسسات المذكورة هي نفسها من تقوم بتمويل وتأطير الحرب في اليمن، وأبادت فيها أغلب قادة حزب الإصلاح الإسلامي والآلاف من اليمنيين.
والذي ينبغي أن ينتبه إليه هو أن هذه اللجنة تم إنشاؤها للترويج لرسالة وثيقة الأخوة الإنسانية، التي وقعها البابا فرنسيس وأحمد الطيب، إمام الأزهر الأكبر، في فبراير 2019.
وينصب التركيز الأساسي لهذه اللجنة الخطيرة “على وضع قيم الأخوة الإنسانية موضع التنفيذ، من خلال إلهام القادة وتمكين الشباب والنساء والمجتمعات الضعيفة للسعي لتحقيق مستقبل أكثر سلامًا”. والفاهم يفهم فقد طال المقال.
ثم تَولَّد عن اللجنة ما سموه منظروها “بيت العائلة الإبراهيمية” وهو مجمع متعدد الأديان يقع في جزيرة السعديات، بـ”أبو ظبي”. والذي افتتح رسمياً في 16 فبراير 2023 من قبل نائب رئيس مجلس الوزراء وزير الداخلية سيف بن زايد آل نهيان، وكذا وزير التسامح والتعايش الشيخ نهيان بن مبارك آل نهيان، وهو تفعيل لما جاء في وثيقة الأخوة الإنسانية من أجل السلام العالمي والعيش المشترك المذكورة آنفا.
وكما تساءلنا عن الدول الإمبريالية، نطرح نفس السؤال: هل البابا وكبير الحاخامات الموالية للكيان الصهيوني، يدافعون عن التعايش والتسامح حقا وصدقا؟
إن كان كذلك، فلماذا لم يُدينوا ولو شفهيا ما يجري في غزة على أيدي اليهود الصهاينة؟؟
لماذا لم يراسلوا النتن ياهو ليوقف المجازر؟؟
لم يفعلوا، ولم يتزعزع لهم قلب رغم وصول عدد ضحايا الإبادات الجماعية لنساء غزة وأطفالها ورجالها إلى 32 ألفا و705 من الشهداء، و75 ألفا و190 جريحا، ورغم التجويع والحصار.
إن أجنحة المكر الثلاثة اليوم -على حد تعبير حبنكة الميداني- في العالم الإسلامي تتمثل في أصحاب الديانة الإبراهيمية والمغفلين من الزوايا، ثم العلمانيين المعادين للإسلام، وثالثهما المتصهينون العرب، ممن شاركوا الصهاينة والمتصهينين النصارى في شركاتهم المتعددة الجنسية، حيث اتحدت مصالحهم، فتساوى عداؤهم للإسلام والمصلحين.
لذا على الباحثين المخلصين الجادين أن يخصصوا بحوثهم لدراسة العلاقة بين ثالوث المكر هذا، وفضح آلياته ومخططاته، فالبلدان الإسلامية اليوم دخلت مرحلة سطوة المتصهينين العرب، بعد أن عانت من الاستبداد العسكري باسم الثورة والاشتراكية والتقدمية والبعث والناصرية، لتنتهي في أحضان الغرب الرأسمالي كمومس مشؤومة أينما سادت قتلت ونهبت ودمرت، أما الملكيات فهي بين ملكيات منصّبة أصلا من طرف دول الاحتلال، أو ملكيات استأنفت الحكم بعد الاحتلال وفق استقلال توافقي يرعى مصالح الدول المحتلة له تاريخيا.
فالرأسمالية صنعت الدين الجديد حتى تضعف الوازع الديني الكابح لاستهلاك قرابة المليارين من المسلمين، وحتى تلغي عقيدة الولاء والبراء التي حطمت جيوش الغرب إبان الاحتلال القديم، في حين قام المستبدون بالتمويل وفرضوا ذلك بالقوة وروجوا له، أما الطابور الخامس فيستغل كل ذلك خدمة للمعسكر الصهيوأمريكي وشركاته.
ونتساءل مرة أخرى: لماذا كلما تحدثت دول الغرب وأجنحة المكر عن السلام والتعايش والتسامح، يزداد عدد قتلى المسلمين في كل مكان على هذا الكوكب؟
لقد اتضح للعالم زيف كل تلك الدعاوى، وإذا كنا لا نزال نسمعها فلأنها جزء من السياسة الدولية المدعومة من الدول الكبرى التي تمارس القتل في المسلمين، وكذلك لأن حكوماتنا لا تملك استقلالها الكامل، ولا القوة لتنتقد تلك الدعاوى أو تحتج على الإبادات والجرائم، ولضعفها تتبنى ما يملي عليها الغرب من مواقف، والتي تكون في الغالب ضد مصالحها.
وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم