ندوة “النقد الأدبي: صورة الشعر وسيرة الشعراء” التي نُظمت ضمن فعاليات الدورة الحادية والثلاثين لمعرض أبوظبي الدولي للكتاب كانت من بين الأنشطة الأدبية النادرة التي تشعر بعد انتهائها بالقرب أكثر من الشعر والشعراء، ونقاد الشعر العربي؛ ولعل ذلك يعود في المقام الأول لابتعاد المتحدثين عن أي تكلف أو تصنع أو تقعر، وإفصاحهم دون أدنى عقدة نقص بأنهم يهابون نقد الشعر، بل واعتراف معظمهم بأنهم لا يعتبرون أنفسهم نقاداً، بل كتاباً وقراءً، رغم ما كتبوه وألفوه؛ وعن سبب ندرة نقد الشعر العربي، استنكر بعضهم لجوء بعض النقاد إلى قوالب وهياكل غربية وإسقاطها على الشعر العربي، دون إبداع أو مراعاة لخصوصية الشعر العربي بمختلف صنوفه.
كما خاض المتحدثون في نقاش تفاعلي نثروا فيه آراءهم المختلفة بمودة زادت اللقاء شعرية وشاعرية. “آدم اقترف خطايا، لكنه لم يقترف الشعر”، هكذا قال الأديب اللبناني يوسف عيد لدى حديثه عن الشعر قديماً وحديثاً؛ أما زميله الشاعر والروائي علي نسر فاختلف معه ورأى أن آدم ليس هو الشاعر الأول، بل إنه قصيدة الله الأولى في الأرض!.
وفي ما يخص ممارسة النقد، قالت الأديبة السورية فاتن حمودي إن القارئ ناقد بشكل أو بآخر، مضيفة أن الأثر المفتوح في النقد وقابلية أي نص لعدد لا متناه من القراءات يجعل جميع القراء ناقدين بطريقة ما، لكنها استحضرت في الوقت عينه الكاتب المغربي عبد الفتاح كليطو، الذي قالت عنه إنه رغم غزارة كتاباته وقراءاته لم يعتبر نفسه ناقداً، ولذلك فهي تنأى عن ادعاء ممارسة نقد الشعر وتعتبر نفسها قارئة فحسب، وأنها تعتمر قبعة القارئة عندما تكتب وليس قبعة الناقدة. والاعتراف نفسه أدلى به الأديب يوسف عيد، الذي استجلب تصفيق الحضور بعد أن قال: “أنا أعترف بأنني ناقد فاشل، لأنني لا أستطيع التخلص من مشاعري عند ممارسة النقد”.
غالب ومغلوب
يعتبر علي نسر الشعرَ رد فعل وليس فعلا، وأن كل شيء في الحياة يبدأ رد فعل ثم يستحيل فعلاً؛ ومن أبرز ما قاله خلال مناقشة أسباب قلة الأعمال الناقدة للشعر العربي في عصرنا الحالي إنه عند الحديث عن النقد العربي مقابل النقد الغربي لا بد دوماً من استحضار أن المغلوب يحاكي لغة الغالب، كما يقول ابن خلدون؛ فالمغلوب يكون مثل إسفنجة تمتص ما حولها من صافٍ ووحل، والعرب في أمس الحاجة إلى الصافي، لكن طبيعتهم المغلوبة تميل إلى امتصاص كل شيء، بما في ذلك الأوحال.
وأضاف نسر أن الشاعر التونسي حازم القرطاجني الذي عاش في القرن الثالث عشر ميلادي كان أكثر جرأة من النقاد العرب اليوم، حيث قال: “لو اطلع أرسطو على شعرنا اليوم لغيَّر رأيه”؛ مؤكدا أن الطريقة التي يستخدمها العرب المغلوبون عند النهل والأخذ من الغرب الغالب مختلفة تماماً عن طريقة أخذهم من الآخر حينما كانوا غالبين!.
تذوق الجمال
تعتبر فاتن حمودي أننا بحاجة إلى تربية الذائقة الجمالية عند أطفالنا منذ وجودهم أجنة في بطون أمهاتهم، وخلال طفولتهم المبكرة؛ فقبل القراءة والشعر علينا تعليم الطفل قراءة ما حوله وتعويده على تذوق الجمال المحيط به، كيف يشم الوردة، وكيف يتأمل حديقة، وكيف يرى الطريق، إلخ؛ وهذه الشعرية تتنامى حتى تصبح له “أناً” تعرف البعد الجمالي واللغة البصرية، فهو يتابع قصص الأطفال ويرى الصورة واللون ويمارس إسقاطاته عليها؛ وهذه الذائقة تنمو عبر القصة المحكية قبل النوم ثم عبر الفيلم والأغنية المسموعة وغيرها، وتخبو عند غياب التفاعل الواعي مع ما يحيط بنا من جمال. هكذا تُربى الذائقة الجمالية لدى الطفل وتنمو أناه الداخلية وتنتقل من حالة “الهُوَ” إلى حالة “الأنَا”، وهنا يبدأ يتذوق الجمال المحيط به ويكون ذلك المتلقي العارف الذي له عين واعية ناقدة فاحصة شاخصة، تتفاعل مع ما حولها بالإقبال على الجميل، والنأي عن الغث السمين.
ورغم ثراء العروض التي قدمها المتحدثون، تظل أسئلة عديدة عالقة عند الحديث عن الشعر والشعراء في العالم العربي، منها ماذا عن سيرة الشعر وصورة الشعراء حالياً؟ وهل يمكن جعل الشعر بضاعة رائجة في زمن الكلمة الضائعة وزمن الصورة الطاغية؟ هل بإمكان النقاد جعل الشعر بضاعة رائجة؟ هل طغيان قيم الربح التي ركز عليها عالم القيم الرأسمالية هو المسؤول عن اضمحلال الكلمة وتلاشي معانيها وظلالها وصعود أنماط تعبيرية أخرى أكثر تأثيراً وإقناعاً للمتلقي مثل الصورة بمختلف أشكالها! هل يقع العتب علينا نحن العرب فقط أم إن العالم بشرقه وغربه يعيش حالة غير مسبوقة من التشظي الفكري جعلته يُقْبِل على كل ما هو سهل وسريع الهضم ويهجر كل ما يكلفه أدنى عناء فكري وعقلي، كما قال المفكر الفرنسي جون بول شانيولو؟!.