يتساءل الناقد محمد بنعزيز “ما الذي يجعل مشاهدة فيلم ما في مهرجان أفضل من مشاهدته في قاعة سينما؟ هل هي شروط العرض؟ هل هي فخامة القاعة وعظمة الشاشة؟ هل هي المجانية؟ قبل أن يجيب بأن “الفارق هو استثمار المشاهدة المشتركة لإنتاج خطاب سينمائي مُحايث للأفلام المعروضة، وهو الجو السينيفيلي الذي يخلقه عارفون بالفن السينمائي ينتجون ويبثون تحاليل وتعاليق وتفاسير”.
ووصف بنعزيز، في مقال له بعنوان “مناقشات الأفلام في مهرجان خريبكة.. السينيفيلي في محراب السينما”، أجواء مناقشة الأفلام المشاركة في الدورة الثانية والعشرين للمهرجان الدولي للسينما الأفريقية بخريبكة المنعقدة بين 28 ماي و4 يونيو من السنة الجارية، وأشار إلى أنه “في المناقشات هناك من يطرح أسئلة وهناك من يدلي بارتسامات، جرى تمرين في النقد العفوي الفوري بخليط من العربية والفرنسية، تمّ تحليل مظاهر الاستغلال في القارة الأفريقية وهيمنة الأجانب على خيراتها”.
وختم بنعزيز مقاله بالإشارة إلى أنه “بفضل مثل هذه المناقشات الخصبة، يعتبر السينيفيلي المهرجان هو محراب السينما”، مضيفا أنه “إذا غاب هذا الخطاب النقدي وما يتضمنه من تحليل وتعليق مرافق لعروض الأفلام عن أي مهرجان فإن قاعة سينما فخمة خاصة على الكورنيش تبقى أفضل بل أروع للمشاهدة بما توفره من فخامة كراسٍ وجو مشاهدة، نفسي وتقني واجتماعي، لا مثيل له”.
هذا نص المقال:
لماذا تبدو شخصية الإنجليزي طيبة بينما يظهر الصيني شريرا، مع أنهما معا مُستغِلان في منجم الذهب الرواندي؟
هذا هو السؤال الذي تلقاه المخرج الرواندي يوهي أمولي Yuhi Amuli بصدد فيلمه A taste of Our Land “قطعة من أرضي” 2020 المعروض في مسابقة الأفلام الروائية الطويلة في الدورة الثانية والعشرين للمهرجان الدولي للسينما الأفريقية بخريبكة المنعقدة بين 28 ماي و4 يونيو 2022.
أجاب المخرج بأنه لا يرى أنه تعاطف مع أي من الشخصيتين، لكن الصيني هو الذي يسيطر على منجم الذهب والإنجليزي مجرد مساعد له.
بعدها توالت تعليقات عن حرب الذهب في أفريقيا، وكون السلطة مأجورة لرجال الأعمال المستثمرين وهي لا تنقذ العمال المحليين من عقود الإذعان، لذا يشعر هؤلاء بأن السلطة باعتهم، وبالتالي لا خيار لهم في وجه الاستغلال الذي يتعرضون له.
وبمجرد ذكر الاستغلال توالت مصطلحات الإمبريالية وتوحش الرأسمال والشرطة في خدمة المستغل… حتى كاد كارل ماركس يظهر في قاعة المناقشة.
طال النقاش وأعلن مسير الجلسة الشرقي عامر نهاية الجلسة مع إمكانية الاستمرار في المحاورات الثنائية، ثم انتقل المسير إلى استضافة فريق فني آخر لمناقشة فيلم طويل آخر: “أوليفير بلاك”oliver black 2020، ذكر كاتبه ومخرجه ومنتجه توفيق بابا بأنه فيلم أنجز بتمويل ذاتي، وأن الميزانية كانت صغيرة، فتوالت الأسئلة عن كلفة كراء المعدات ومدة التصوير وعلاقة الكلفة بالتصوير في مكان معزول… ثم تحول النقاش إلى العلاقة الإنسانية بين الشيخ والشاب وعلاقة المغرب بإفريقيا… وامتد النقاش في الندوة ثم في المطاعم وأروقة الفنادق.
ما الذي يجعل مشاهدة فيلم ما في مهرجان أفضل من مشاهدته في قاعة سينما؟ هل هي شروط العرض؟ هل هي فخامة القاعة وعظمة الشاشة؟ هل هي المجانية؟
لا.
الفارق هو استثمار المشاهدة المشتركة لإنتاج خطاب سينمائي مُحايث للأفلام المعروضة. هو الجو السينيفيلي الذي يخلقه عارفون بالفن السينمائي ينتجون ويبثون تحاليل وتعاليق وتفاسير.
في هذا السياق جرت كالعادة صباح الثلاثاء 31-5-2022 مناقشات الأفلام التي عرضت في اليوم السابق، وهذا حدث مميز في المهرجانات التي تبحث عن تمديد التفكير في الأفلام لما بعد المشاهدة من طرف السينيفيليين. والسينيفيلي من وجهة نظر علم الاجتماع هو الشخص الذي تحتل السينما محور حياته. هو الذي يحب السينما كثيرا أو هو الذي يعرف السينما كثيرا (“علم اجتماع السينما وجماهيرها”، إيمانويل إيتيس، ص: 152).
تمت مناقشة فيلم “قطعة من أرضي” للمخرج الرواندي يوهي أمولي، فيه وقائع جرت في قلب أفريقيا، يرويها المخرج في فيلمه لأنه عاشها يوم عمل في المنجم.
هذا فيلم تخيلي يوثق لتجربة معيشة: لقد وصل مستغل جديد إلى أفريقيا. الصين هي اللاعب الأول في أفريقيا حاليا. انطلقت حرب الذهب في أفريقيا بين المواطنين والمستثمرين الأجانب. المناقشات توضح الصورة أكثر.
في المناقشات هناك من يطرح أسئلة وهناك من يدلي بارتسامات، جرى تمرين في النقد العفوي الفوري بخليط من العربية والفرنسية، تمّ تحليل مظاهر الاستغلال في القارة الأفريقية وهيمنة الأجانب على خيراتها، جرت مقارنة بين المستغل الصيني والبريطاني… يبدو أن المستغل البريطاني أكثر إنسانية.
لتوصيف المشهد طرح محرر هذه الورقة الأسئلة التالية: من يتدخل؟ ماذا يقول؟ وما خلفيته؟ وكيف يقوي النقاش الصلة بين ضيوف المهرجان؟
جوابا عن ذلك، وفي حوار جانبي صنف مسير المناقشات الأستاذ الشرقي عامر طارحي الأسئلة في فريقين:
يتساءل السينيفيليون عشاق السينما عن المعنى والعبر والرموز في السينما، يفضلون نقاشات ذات بعد فلسفي إنساني، يستنبطون قيما إنسانية تصنع عظمة الفيلم وشاعريته… في هذا الصنف الإنساني هناك من يجد صعوبة شديدة في إطلاق الميكروفون.
بينما يتساءل المهنيون المحترفون، وهم السينيفيليون الجدد، عن قضايا تقنية ومالية مثل كلفة الفيلم، ومدة التصوير، ونوع الممثلين: هل هم محترفون أم هواة، التطوع والتكاليف، طريقة التعاون وإدارة الفريق المقلص المصغر أثناء التصوير، ثم مدة المونتاج…
يطرح السينيفيليون العشاق درجة تعبير الفن عن الحياة وينفرون من المصطلحات التقنية. يتساءلون عن رسالة الفيلم، بينما يتحدث المهني عن إجراءات صنع ذلك.
بين الحزبين أعلن مصطفى العلواني أنه ينتقي أفلاما معينة، تنفذ ببطء وتناسب توجهه السينيفيلي، ويتجنب أفلاما خفيفة لأنه يخاف أن تزعزع عقيدته السينمائية.
بعد كل هذه المناقشات وعرض معلومات الميزانية ومدة التصوير طالب المسير الشرقي عامر بضرورة مشاهدة أي فيلم بناء على شكل ومضمون لقطاته وليس بناء على معلومات بطاقة الإنتاج.
أضاف: مطلوب تقييم فني. ولاحظ أن ترجمة الفيلم (سوتيتراج) لا تعكس حقيقة الجمل المنطوقة في الحوار.
بعد الاستماع إلى تعاليق مختلفة في إحدى المناقشات طلب من مخرج أن يرد فقال: إن كل نقد أسمعه سيساعدني في صنع فيلمي القادم.
بفضل مثل هذه المناقشات الخصبة، يعتبر السينيفيلي المهرجان هو محراب السينما. إذا غاب هذا الخطاب النقدي وما يتضمنه من تحليل وتعليق مرافق لعروض الأفلام عن أي مهرجان فإن قاعة سينما فخمة خاصة على الكورنيش تبقى أفضل، بل أروع للمشاهدة بما توفره من فخامة كراسٍ وجو مشاهدة، نفسي وتقني واجتماعي، لا مثيل له.