تناول الناقد المغربي محمد بنعزيز، في مقال له، لقطات من الفيلم الوثائقي “لغز مارلين مونرو: التسجيلات المجهولة”، لمخرجته إيما كوبر، مشيرا إلى أن “الفيلم يحكي مراحل الصعود المدوي للفتاة الذهبية التي حققت نجاحا يحلم به أي فرد؛ حكاية جمال ومال وجنس وطوابير معجبين حول نجمة الاستعراض الأولى، لأنها تملك ما تعرضه”.
وأضاف بنعزيز، في مقال به بعنوان “مارلين مونرو: يسقط معبودو الجماهير مبكرا”، أن “مارلين هي رمز الأنوثة العالمية، رمز الإثارة، نموذج لما يجب عليه أن تكون المرأة في منتصف القرن العشرين؛ هي ممثلة، أيقونة عالمية، هي بلقيس العصر الحديث… خلدها آنديوارهول في لوحة بيعت بـ 195 مليون دولار، لوحة عُلّق عليها كثيرا وحطم ثمنها رقما قياسيا في ماي 2022، أي بعد صدور الفيلم”.
وبعدما تطرق الناقد المغربي لمجموعة من الجوانب الفنية لمارلين مونرو، ختم مقاله بالإشارة إلى أنه “بالربط بين عاملي انطفاء الجسد ونمط الحياة الصاخب، وبتجميع قطع ‘البوزل’ بحثا عن الصيغة الحقيقية النهائية للقصة، لمحو القصة الملفقة؛ يتضح أن التفسير البسيط الذي لم يتطرق له الفيلم هو أن نجمة الاستعراض لم تعد تملك ما تعرضه، فقد انطفأ الجسد في منتصف الثلاثينات من عمر مارلين فتراجع الاهتمام بها”.
هذا نص المقال:
سبق لي أن رأيت صورة التنورة التي تتلاعب بها الريح في صفحات كثيرة، وعندما وجدتها في كتاب أندري بازان “ما هي السينما؟” صارت لها أبعاد جديدة لأنها صُورة صارت موضوعا للتعليق. كل صورة لا يُعلق عليها تنقرض سريعا.
تهب عاصفة صغيرة من تحت الأرض وترفع تنورة الممثلة، هكذا فرض المكان الذي تم اختياره عمدا فوق نفق ميترو لقطة بالصدفة على المخرج بيلي وايلدر في فيلم “حكة السنوات السبع” The Seven YearItch 1955، ثم صارت اللقطة القصيرة التي خلدت الممثلة مارلين مونرو (1926-1962) رمزا لحياة النجومية القصيرة التي تذهب مع الريح.
هذا ما خصصت له منصة “نيتفليكس” فيلما وثائقيا بعنوان “لغز مارلين مونرو: التسجيلات المجهولة” 1-4-2022، من إخراج الشابة إيما كوبر.
يحكي الفيلم مراحل الصعود المدوي للفتاة الذهبية التي حققت نجاحا يحلم به أي فرد؛ حكاية جمال ومال وجنس وطوابير معجبين حول نجمة الاستعراض الأولى لأنها تملك ما تعرضه.. كانت تقدم صورا فاتنة، والصور هي الشكل الخارجي للكائنات والأشياء…مارلين هي رمز الأنوثة العالمية، رمز الإثارة، نموذج لما يجب عليه أن تكون المرأة في منتصف القرن العشرين؛ هي ممثلة، أيقونة عالمية، هي بلقيس العصر الحديث… خلدها آنديوارهول في لوحة بيعت بـ 195 مليون دولار، لوحة عُلّق عليها كثيرا وحطم ثمنها رقما قياسيا في ماي 2022، أي بعد صدور الفيلم. لوحة تزعم معادلة لوحة مونرو للوحة الموناليزا. ذلك الثمن دليل على آنية الموضوع. الأشياء تعكس كلفتها.
هذا فيلم وثائقي يقوده صحافي محقق على وجهه تجاعيد تكشف حجم خبرته، صحافي بمعجم بوليسي يفسر مادة ضخمة: صور، لقطات، أغلفة مجلات، مواقع مواعيد غرامية، تسجيلات صوتية كثيفة عميقة… لقد توفرت للمخرجة وثائق بصرية كافية لعرضها… يعرض الفيلم صوت البطلة وصوت الشهود بالتزامن مع صوتين، صوت خارجي عبارة عن سرد مسجل، وصوت سرد داخلي عبارة عن مونولوج يقدمه المحقق الخبير… الذي يفترض أن تزيد تجاعيده من مصداقية السر الذي سيكشفه لنا.
يتبع الفيلم الخط الكرونولوجي لما جرى، يعرض كل مرحلة من حياة مارلين ويحاول تفسيرها… واجهت صعوبة في الجمع بين الأسرة والشهرة، تزوجت شخصا أعجبها اهتمامه بها، تزوجت شخصا يريد امتلاكها، ضربها بعد لقطة التنورة التي تتلاعب بها الريح… لقطة المجد.
كيف وصلت مارلين إلى هذا المجد؟
وصلت مارلين إلى لوس أنجلس، حيث يجري اختيار بنات بأجساد من مقاس 12 في العنق و34 والنصف في الصدر؛ كانت وجها واعدا يفيض كبرياء وطموحا… تم اختيارها لهوليود.
وتم الاشتغال على مارلين بالمدلكين وخبراء التجميل ومعلمي الغنج، لتنتقل من فتاة حسناء إلى نجمة تبعا للخطاطة التي شرحها إدغار موران في كتابه “نجوم السينما” ترجمة إبراهيم العريس، المنظمة العربية للترجمة، ط 1 بيروت 2012، ص 62- 63.
بعد الاشتغال والتأهيل ظهرت مارلين في أفلام كثيرة في لحظة هيمنة السينما على سوق الترفيه، وحققت النجمة جماهيرية غير مسبوقة في سياق “النصف الثاني من القرن العشرين الذي تفوقت فيه السينما على باقي الفنون”. هوبزباوم “عصر التطرفات”، ترجمة فايز الصُياغ، المنظمة العربية للترجمة، 2011، ص 361.
كانت شهرة نجمات منتصف القرن العشرين ثمرة ذلك التفوق. وهنا يلتقي الشخصي والتاريخي في هذا الفيلم الوثائقي.
حصلت مارلين على نجومية رسخت لديها جنون العظمة، كان كل ظهور لها يتحول لاستعراض مصور… في زمن صعود ثقافة استعراض الأجساد في حلبات الملاكمة والرقص والكرة… كانت مارلين هي الأبرز، يحبها الرجال وحتى النساء؛ كان تردد مقولة “أن تكون أو لا تكون” التي تنسب لشكسبير، لأنها وردت على لسان الأمير هاملت، بينما الجملة في الأصل هي لسائس الحمار سانشو بنثا في “دون كيخوته” لثيربانتيس.
كانت مارلين تصعد، وكانت الصحافة تحلل مواهبها وطموحها واندفاعها… كانت الكاميرا في سيارة ثم تتبع قطارا سريعا… كانت مارلين نجمة مطلوبة، غنت في عيد ميلاد الرئيس، كانت تتحدث مع رجال مهمين مثل الرئيس كينيدي ومع يساريين أمريكيين هاربين إلى المكسيك… لهم صلة بالزعيم الكوبي فيديل كاسترو… بهذه الخلطة بين السياسة والحب والنووي صار التهديد الشيوعي مبررا لاغتيالها… طلب منها قطع علاقتها بالرئيس… بذكر هذه المعلومات يحاول المُحقق والفيلم الوثائقي تفسير موت مارلين بمؤامرة سياسية… في لحظة تدهور مسار النجمة ترصد الكاميرا طائرة تحط بالعرض البطيء… تقف الكاميرا بعيدة وترصد سيارة تعبر منطقة قاحلة لجعل الفيلم يتنفس… هكذا يخدم المونتاج الفيلم وهو يوفر لقطة استراحة للمتفرج.
بين إشاعة وأخرى عن قصة حياة مارلين، الجميع يذكر اسمها الشخصي كأنها تقطن معه. هل انتحرت أو قتلت أو تناولت بالصدفة جرعة حبوب مهدئة أو منومة زائدة؟.
إشاعات، إشاعات… نادرا ما يتم تداول الحقائق، الإشاعات والمؤامرات أحسن حظا وانتشارا… يزعم الفيلم البحث عن الصيغة الحقيقية النهائية للقصة… لمحو القصة الملفقة. الحقيقة الوحيدة هي أن مارلين مونرو نموذج للمرأة المعاصرة، كان حلمها أن تكون ممثلة جيدة، كانت تملك مؤهلات جسد فاتن جلب لها عشاقا أغنياء جدا… تنافسوا على امتلاكها مؤقتا… حين فقدت توهجها ابتعدوا عنها…
وهذا ما لم تتحمله مونرو ولم تتحمله مادونا لاحقا، وقد كانت مادونا نسخة أكثر جرأة من مارلين مونرو. لقد بيّن إدغار موران في كتابه “نجوم السينما”، في فصل “سفر تكون النجوم وتحولاتهم”، كيف كانت مارلين نجمة مثالية نقية عاشقة تعيش أهواءها بإخلاص وهي في بحث دائم عن فارس الأحلام، نجمة ذات قلب أمومي يخفيه صدر ذو قيمة كما في فيلم “نهر بلا عودة” 1954.
ترهل ذلك الصدر بسبب الزمن وبسبب محدودية عمر النجومية في هوليود، وكانت السن المثالية لنجومية النساء في السينما بين 20 و25 سنة حسب إدغار موران في “نجوم السينما” ص 34. كان ذاك هو متوسط عمر نجمات هوليود، لذا كانت فترة عملهن قصيرة، وبعد هذه الفترة تنطفئ النجمات.
بالربط بين عاملي انطفاء الجسد ونمط الحياة الصاخب، بتجميع قطع “البوزل” بحثا عن الصيغة الحقيقية النهائية للقصة… لمحو القصة الملفقة؛ يتضح أن التفسير البسيط الذي لم يتطرق له الفيلم هو أن نجمة الاستعراض لم تعد تملك ما تعرضه، فقد انطفأ الجسد في منتصف الثلاثينات من عمر مارلين فتراجع الاهتمام بها، حسب توصيف المؤرخ الثقافي هوبزباوم الذي فحص الظاهرة.. “كانت واحدة من معبودي الجماهير الذين سقطوا مبكرا بسبب نمط حياتهم الصاخب”، عصر التطرفات، ص 568. من يعش حياة صاخبة يحقق نجومية قصيرة مؤقتة فاتنة، يحلم بها غيره النكرة.