بكت، ولولت وناشدت زوجها بكل ما أتيت من قوة من أجل التخلي عن فكرة الطلاق. ظل هو جامدا، كعادته في مثل هذه المواقف الحرجة. لم يبال وكأنه لم يسمعها، وكأنه لم يرمق خديها المبللتين بالدموع الحارقة. لم يحرك ساكنا أمام توسلاتها المتكررة. حاولت بكل ما تملك من جهد أن تبعده عن الفكرة؛ لكنه أصر على قراره الصارم.
عاشت هبة هذه الأيام ظروفا صعبة للغاية. همها الوحيد الآن هو القيام بواجبها تجاه أبيها، الذي يرقد مريضا في صراع عسير بين الموت والحياة في أحد مستشفيات أمستردام.
تقوم بزيارته كل يوم وتحمل معها أغذية تعدها خصيصا له. تنسق مع الأطباء وتستفسرهم عن حالته، ثم تقوم بدور المترجم لأمها. لم يعد لها الوقت الكافي لمرافقة الأطفال إلى المدرسة والعناية بهم كما العادة.
توسلت هبة زوجها أن يمهلها بعض الوقت ريثما ترتب أوراقها وتستقر أحوالها؛ لكن كريما لم يعر أي اهتمام لتوسلاتها، لم يعد يطيق العيش معها تحت سقف واحد، لم يعد يستحمل غيابها المتكرر إلى المستشفى لزيارة أبيها.
لقد أرغم على القيام ببعض الأدوار، التي لم يتعود عليها من قبل؛ مثل مرافقة الأطفال إلى المدرسة واقتناء حاجيات البيت.
لم تكن هذه هي المحنة الأولى التي تمر بها هبة المسكينة في حياتها. لقد بدأت قصتها وهي ابنة الست عشرة سنة. ما زالت تتذكر الحدث الكبير الذي كان سببا في قلب حياتها رأسا على عقب ووضع حدا لأحلامها الكبيرة.
كانت هبة تقضي عطلتها الصيفية، كما جرت العادة كل سنة، بمدينة طنجة. هذه المدينة التي غادرتها صحبة أمها وأخيها منذ سنين للعيش بجانب أبيها المقيم في هولاندا. وكلما حلت بمسقط رأسها انتابها شعور جميل يعيدها إلى أيام الطفولة البريئة. كانت أيام العطلة تمر بسرعة فائقة. أغلب أوقاتها تقضيها نهارا في البحر وفي المساء قرب باب العمارة رفقة بنات العائلة. في الحقيقة، كانت العطلة بمثابة تجمع سنوي لأفراد العائلة المقيمة في مدن مختلفة من الديار الهولاندية. كانت أجواء جميلة جدا. كل سنة يستقطب الحي نفسه الحشد العائلي؛ غير أن صيف هذه السنة كان له طعم آخر. بينما كانت هبة في أحد أيام الصيف تستعد للخروج رفقة سعاد, ابنة خالتها لشراء بعض الحاجيات، نودي عليها من طرف والدها. كانت نبرة صوته توحي بأن الأمر في غاية الأهمية.
اقتحمت هبة الغرفة، وانتابها شعور غريب وهي ترمق أمها جالسة مطأطئة الرأس في قاع البيت، تحاذيها زوجة عمها خديجة. بينما جلس العم السي أحمد أمام صينية الشاي التي تتوسط القاعة. لم تعتد هبة على الجلوس بعيدا عن أمها في مثل هذه المناسبات.
“تفضلي يا بنيتي ، تفضلي”، تابع الأب كلامه.
ألقت من جديد نظرة حول الغرفة ثم جلست في المكان الذي اقتيدت له من طرف أبيها.
“لا, شكرا يا عمي” هكذا رفضت هبة كأس الشاي المقدم من طرف عمها؛ لكنه أصر من جديد على قبول دعوته.
لم يدم الصمت طويلا، ثم بادرها الأب:
“لدينا خبر مفرح يا بنيتي”.
حبذا لو دخل في الموضوع للتو. هذا ما جال في خاطر هبة وهي تنصت بكل إمعان لما سيبوح به والدها.
“لقد قررنا تزويجك بابن عمك سعيد على سنة الله ورسوله”.
لم تصدق هبة ما سمعته في الوهلة الأولى. احمرت وجنتيها في بداية الأمر. ظلت عيناها ساكنتين لم تتحرك للحظة حتى تناثرت دموعها. وبعد مدة كان الصمت هو المهيمن فيها فاهت:
“ولكن، أنا الآن منهمكة في إتمام دراستي. هذا هو هدفي أولا”.
وقبل أن يبدي الأب رأيه حول رد ابنته، صاح العم:
“يا بنيتي، كل بنت مصيرها الزواج أولا. أما الدراسة أو العمل فهذا أمر ثانوي”.
ثم تابع الأب:
“الحمد لله! ستتزوجين ابن عمك، شاب وسيم محبوب لدى الجميع. وستعيشين معه في هولاندا”.
لم تكن فكرة الزواج تراود هبة أبدا. كانت تحلم دائما بأن تصبح ممرضة أو مربية أطفال. كل شيء كانت تتوقعه من هذه الجلسة المفاجئة إلا مشروع الزواج. والأدهى من كل هذا هو سعيد نفسه. لم تكن تتوقع أنها ستتزوج رجلا مثله. كانت تتحاشاه كل مرة التقيا فيها أثناء المناسبات العائلية. كانت لا تطيق فيه جفاء طبعه وترفعه. وكانت طريقة لباسه وتسريحة شعره تزيدان من اشمئزازها نحوه.
“توكلي على الله يا بنتي. هذا الزواج فيه خير إن شاء الله”
أضاف الأب وكأنه متأكد من قبولها الدعوة.
شعرت بصعوبة الموقف وتلفتت جهة أمها وكأنها تطلب عونها ومساعدتها؛ لكنها فهمت من خلال ارتسامات وجهها أن الحل ليس بيدها. لقد حسم الأمر مسبقا على ما يبدو. أحست لأول مرة بأنها وحيدة وعليها تدبر أمرها بنفسها. أيقنت أيضا أن ردها حول مسألة الزواج سيكون له تأثير كبير على حياتها.
كانت هبة تكن حبا وتقديرا كبيرين لأبيها. كل رغباته وطلباته تقبلها وتنفذها بصدر رحب؛ غير أن طلب الوالد هذه المرة لم يتعلق بنوع اللباس المحتشم أو الاستفسار عن الدخول والخروج وإنما تعدى ذلك إلى ما هو أصعب. وماذا عساها أن تفعل الآن؟
انذرفت الدموع من جديد منسكبة على خديها. تنهدت تنهيدة عميقة ولم تبح بكلمة. انتظرت لمدة ثم رفعت رأسها.
آنذاك, دوت زغرودة محتشمة من فاه زوجة عمها، تلتها قراءة الفاتحة وعناق بين أبيها وأخيه. زواج مدبر ومخطط له من قبل، كما اتضح فيما بعد.
“الله يرضي عليك”
خاطبها الأب.
“رفض هذا الزواج بمثابة إعلان الحرب وسط العائلة وبداية القطيعة مع والدك”.
هكذا عقبت الأم على الأمر بعد انفرادها بابنتها.
حضر العدلان في اليوم نفسه لكتابة عقد الزواج؛ لأن في اليوم الموالي كان مقررا أن تعود هبة رفقة أسرتها إلى بلاد الأراضي المنخفضة. لم تكن تتوفر على فستان خاص بالمناسبة ومع ذلك زج بها من جديد لتستقبل من طرف العدلين. كانت أناملها ترتعش وهي تضع توقيعها على العقد. فتعالت الزغاريد معلنة بداية عهد جديد. في الحين ذاته لم تنقطع دموعها الحارقة التي لا تنبع فقط من جفنتيها وإنما تنبثق من صميم فؤادها. ضمتها أمها إلى صدرها وأجهشتا بالبكاء معا. كانت هذه اللحظة جد معبرة عما يخالج الاثنان دون همس أو تفوه بكلمة. لقد أصبحت هبة الآن في ذمة زوجها سعيد. دأب هذا الأخير على زيارتها في بيت أسرتها باستمرار محاولا التقرب منها أكثر. نفس الشيء بالنسبة لهبة. كانت هي الأخرى تستغل تلك اللحظات لاكتشاف شخصية خطيبها والتعرف على مزاجه. كانت فعلا تجهل كل شيء عنه؛ غير أن حديثهما داخل البيت لم يكن مناسبا للتطرق لكل المواضيع بكل حرية. مما جعل هبة تقبل بمصاحبته من حين الى خارج البيت. وهكذا شرع الشابان في الإفصاح عن مشاعرهما, عن آمالهما في الحياة وعن الحياة الزوجية التي ستجمعهما.
استمر الوضع على هذا المنوال لما يناهز السنة. كانت المدة كافية بالنسبة لهبة لأخذ فكرة واضحة عن خطيبها.
“أنا أريدك زوجة, يعني ربة بيت تسهرين على تربية أبنائنا. لا أقبل أن تشتغلي خارج البيت”.
كانت هذه هي النقطة التي أفاضت الكأس، ولم تترك المجال لمتابعة الحديث بينهما. كانت هبة تأمل طبعا في إتمام دراستها وتحقيق أمنيتها. فهي تريد أن تكون مستقلة وحرة لا أن تظل طول حياتها متقوقعة داخل البيت تحت رأفة الرجل.
تظاهرت هبة بالعياء, وارتدت معطفها ثم غادرت المقهى الذي كان يجمعهما.
“أرجو أن تفهميني. أنا سأوفر لك كل ما تريدين وتحبين و…..”…
لم تترك له هبة فرصة إتمام كلامه, لأنها تعلم جيدا نظرته إلى المرأة. كما أنها تعي استحالة تغيير رأيه في هذا الموضوع الذي يهمها بشكل كبير. تكاثرت المناوشات بينهما بشكل مستمر، فبدأت هبة تختلق الأعذار كلما طلب منها الخروج معه خارج البيت؛ بل حتى داخل البيت أحس سعيد بنفورها منه.
وذات صباح استيقظت هبة, في الحقيقة لم تنم طول الليل, مستغلة غياب أبيها. فارتمت في حضن أمها وأجهشت بالبكاء مفجرة كل ما بداخلها.
” أرجوك أمي, ارحميني من هذا العذاب. أنا لا أستطيع العيش مع سعيد. من المحال أن يكون هذا زوجا لي”.
لم تبح الأم في بداية الأمر بأية كلمة. لقد كانت طبعا تعلم بأن هذا “المشروع” لن يتم له النجاح. ضمت ابنتها إلى صدرها وحاولت تهدئتها؛ لكن دموع هبة لم تتوقف عن السيلان وكأنها تعبر عما لم تستطع قوله منذ مدة. لم تتمكن الأم أيضا من التحكم في نفسها. وأرخت العنان هي الأخرى لدموعها التي اختلطت وامتزجت ببكاء ابنتها.
” سنجد حلا بإذن الله”
هكذا حاولت الأم طمأنة هبة. وقبلتها ثم ضمتها من جديد إلى صدرها محاولة تهدئتها.
“سأفاتح أباك في الموضوع”
وكما كان متوقعا لم يستسغ الأب الأمر. ثار وغضب غضبا شديدا.
“ماذا تريد هذه البنت؟ ترفض رجلا تتمناه كل البنات. إلهي, ماذا سأقول لأخي؟”.
حاولت الأم تهدئته, لكنه لم يتقبل بأي شكل من الأشكال هذا الأمر. ثم خرج للتو تاركا زوجته لوحدها في هذا المأزق. في نفس الحين سمعت هبة كل ما راج بين والديها من حديث، فزاد حزنها أكثر. أصبح الجو مكهربا داخل البيت. غابت تلك اللحظات التي كانت تجمع كل أفراد الأسرة لتبادل الأحاديث بينها إما على مائدة الطعام أو في الليل متحلقة حول جهاز التلفاز. اعتكف الأب في غرفته, التي لا يفارقها إلا وقت تناول الطعام مع زوجته أو لمغادرته البيت. الحالة ذاتها انطبقت على هبة, التي أرغمت على تناول وجباتها داخل غرفتها لوحدها؛ لأن الأب رفض رؤيتها والجلوس معها على مائدة الأكل. واستمر الحال على هذا الشكل لبضعة أشهر. اضطرت هبة إلى أن تغيب باستمرار عن دراستها وبعد مدة انقطعت بصفة نهائية. حاولت الأم من حين إلى آخر إقناع زوجها بالرجوع عن تعنته وتغيير سلوكه تجاه هبة؛ لكنها كانت تواجه بالقمع من طرفه.
زيارات سعيد إلى البيت لم تنقطع أبدا؛ لكنها عرفت هي الأخرى فتورا كبيرا. حاول من جانبه مرارا الاستفسار عن هذا التغيير, فكانت الأم تختلق كل مرة عذرا جديدا.
لكنه لم يطق كل هذا الجفاء, خصوصا بعدما ناهزت مدة الخطوبة السنتين. وطلب ذات يوم من هبة مصارحته بما يجري.
صاحبته خارج البيت وجلسا في إحدى المقاهي الهادئة. كانت علامات الاضطراب بادية على وجه سعيد. كان متشوقا لمعرفة أسرار هذه الأسطورة. أحست هبة بالضغط الكبير الذي مورس عليها حول هذا الموضوع؛ ولكنها لم تستطع أن تتحمل أكثر مما صبرت.
“أنا أقدرك وأحترمك؛ ولكن لا أحس بأي شعور نحوك. أريدك أن تبقى ابن عمي فقط”.
نزل الخبر كالصاعقة على سعيد. لم يصدق ما سمع. ظل محملقا لمدة في وجه هبة.
“ولكن أنا أحبك كثيرا”
حاولت أن توضح له الأمر من جانبها؛ لكن حزنه الكبير منعه من تتبع كلامها.
“ماذا يجب أن أفعل حتى أجعلك تحبيني؟”
أجابته بأن الأمر ليس بهذه السهولة. “لقد حاولت كل هذه السنين التقرب منك, ولكن لا يمكنني أن أضحي أكثر”.
بدا سعيد منفعلا وهو يخاطبها:
“هل تحبين شخصا آخر؟”
تنهدت هبة من جديد: “لا أفكر حاليا في شخص آخر. أرجو أن تتفهم الأمر”
في الليلة نفسها قدم العم وزوجته إلى البيت للاستفسار عما يحدث. فاضطر والد هبة إلى مصارحتهما بقرار ابنته. هذه الأخيرة التي ظلت معتكفة في غرفتها كما العادة تنتظر بكل صبر ما سيسفر عنه هذا اللقاء الحاسم. لم يتقبل العم وزوجته أيضا هذا القرار المفاجئ في نظرهما. وبعد أخذ ورد، اشترط العم أن تسترجع كل الهدايا والمبلغ المالي الذي دفع في الخطبة.
فما كان على والد هبة إلا أن يقبل الأمر, ووعد أخاه أن يسدد له كل المصاريف في أقرب وقت.
في الليلة ذاتها, اقتحم الأب غرفة هبة وهو في أوج غضبه ثم أرخى العنان لوابل من الشتم والسب, وصاح في وجهها:
“أنت التي ستسددين كل هذه المصاريف. أنت التي رفضت الزواج فعليك تحمل المسؤولية”
وأقفل الباب بكل قوة.
هكذا أجبرت هبة على البحث عن عمل والتخلي نهائيا عن الدراسة. لم يعد يهمها نوع أو وقت العمل. المهم الآن هو تحصيل مبلغ الخمسة آلاف أورو في أسرع وقت ممكن لكسب حريتها من جديد.
مرت هبة بفترة عويصة للغاية. اشتغلت بإحدى المخابز طيلة النهار كبائعة، وفي المساء كانت تقوم بتنظيف المحل وغسل جميع الآليات مقابل ثمن زهيد. كانت تعود جد متأخرة إلى البيت, مرهقة من طول ساعات العمل. وعلى الرغم من هذه الحالة المزرية التي أصبحت هبة تعيشها كل يوم, كانت تحس بالسعادة وهي تتقاضى أجرها فتسلمه مباشرة إلى البنك الأمين: أمها. ما كان يحز في نفسها ويؤلمها أكثر هو جفاء أبيها وقسوته عليها؛ فعندما تعود متأخرة من عملها في الليل كان يغلق الباب في وجهها, كان يشتمها, ومع ذلك لم ينقص كل هذا من عزيمتها القوية. كانت تظل تنتظر خارج البيت ريثما تتوسل أمها -كما العادة- لزوجها لتدخل مسرعة إلى غرفتها.
استمر الحال على هذا الشكل لبضعة أشهر. حرمت فيها هبة من كل شيء. تأنيب الأب هذا كان وقعه قاسيا على طفلته. لم يستسغ رفض الزواج من ابن أخيه. فجاء اليوم المحتوم. اليوم الذي سيغير مجرى حياة هبة من جديد.
لقد فسخ عقد الزواج بعدما توصل العم بالمبلغ المالي المتفق عليه. كانت فرحة هبة عارمة ليس لوحدها؛ بل أمها أيضا كانت تشاطرها الإحساس عينه.
استعادت هبة نشاطها وحيويتها، وقررت التخفيض من ساعات العمل والعودة إلى الدراسة من جديد. هكذا خططت هبة لمستقبلها؛ لكن سرعان ما تغيرت خطتها بوجود كريم داخل الفصل نفسه. لقد استطاع هذا الأخير بطيبوبته وهدوئه أن يكسب قلبها. لقد لمست فيه الشخص الذي سيعوضها المحن التي عاشتها. كان كريم يساعدها في كل شيء, ينصت إليها ويبدي رأيه كلما طلب منه ذلك وبالأخص كان يحس بها. وهذا هو الأهم.
كريم هذا لم يتفوق فقط في كسب عطف هبة, بل تعدى ذلك إلى نيل رضا أبيها وباقي الأسرة عندما تقدم لخطبتها. هذه الخطوة كانت السبب في عودة المياه إلى مجاريها. عادت البسمة من جديد إلى كل الوجوه وكأن شيئا لم يقع.
بدأت العلاقة تتوطد بين الخطيبين وقررا دخول قفص الزوجية لتتخلى هبة من جديد عن إتمام دراستها؛ لكن اختيارها هذا كان عن طواعية. لقد أرادت أن تتفرغ لحياتها الزوجية بعدما وعدها كريم بتوفير كل المستلزمات وكدا مساعدتها في كل شيء.
وسارت الأمور كما توقعت. حيث تفرغ كريم للعمل وظلت هبة تقوم بكل شؤون البيت. فأنجبت ثلاثة أطفال وقامت برعايتهم وتربيتهم على أحسن وجه. ترافقهم الى المدرسة, إلى الطبيب, إلى المساحات الخضراء للعب, ترافقهم للقيام بالأنشطة الموازية وتأخذهم إلى المسارح وحديقة الحيوان أثناء أوقات الفراغ. بينما ظل كريم منهمك في العمل الذي لم يسمح له غالبا بالتمتع بطفولة أبنائه. لم يقتصر الأمر على الأيام العادية فقط بل تعدى ذلك إلى أيام العطل. مهنته الحرة جعلته لا يفرق بين الليل والنهار أو أيام العطل ولا يبالي بالراحة لنفسه. لقد تخلى عن واجبه كأب وكزوج. أصبح هاجسه الوحيد هو كسب المزيد من المال؛ لكن ليس هذا هو المهم بالنسبة لهبة ولأطفالها. وجود كريم معهم في العطل ومشاركته أفراحهم وأنشطتهم هو أيضا من الضروريات.
ولد هذا الوضع بالطبع مناوشات عديدة بين الزوجين؛ لكن دار لقمان ظلت على حالها. وكانت الفترة الحرجة التي مرت بها هبة أثناء وجود أبيها في المستشفى هي النقطة التي أفاضت الكأس. فعادت المحن تلاحق هبة من جديد؛ غير أن محنة هذه المرة أقوى وأصعب لأنها تتحمل مسؤولية ثلاثة أطفال. لم تعد المساعدة المالية التي تتلقاها من البلدية أو النفقة تكفي مصاريف البيت. مما اضطرها إلى البحث عن عمل.
وهكذا شمرت هبة على ذراعيها وتحقق حلمها في ولوج منصب في إحدى دور الحضانة. أحست بالسعادة، ولو أن التوفيق بين العمل والبيت وتربية الأطفال ليس بالسهل.
لقد تخلت هبة عن حلمها في إتمام دراستها. ولم يكتب لها النجاح في حياة زوجية هادئة. حلمها الجديد أصبح الآن هو ضمان مستقبل مريح لأبنائها.
ترى كم من هبة تعيش نفس الوضع؟
*قصة واقعية بتصرف