كل معالم الجنازة كانت بارزة؛ رغم مرور أسبوع كامل على الفاجعة، الدخان الكثيف يحجب البيوت المتفحمة ويخترق تباريح السّماء.. ملابس مبعثرة في الخارج، وشظايا النيران في كل مكان، أما العدد القليل ممن فضل البقاء هنا فهو مصدوم ومنكسر، لا يطلب سوى قطعة خبز وخلاص نهائي.
بعد ثلاث ساعات من المسير في طريق وعرة نصل أخيرا إلى دوار دار الحيط، قادمين إليه من مركز بني عروس، وهو المدشر الذي يعتبر الشرارة الأولى لكل الحرائق التي انتشرت لاحقا في مركز مولاي عبد السلام. هسبريس تزور منبع الحرائق وتكشف تفاصيل وفاة امرأتين بسبب النيران!.
كأنها القيامة..
كأنها القيامة. أشجار عارية يعلوها الرّماد، وأرض جرداء خلاء، لا تجذب عين المارّة، ومنازل كانت تتشابه في زينتها وعنفوانها، كما تشتبه اليوم في موتها وخرابها، وصيحات حادة وموجعة لمن ظل يقاوم حرّ الشمس ولهيب النّيران المشتعلة؛ هي مشاهد من دوار دار الحيط، الذي انطلقت منه النيران وأتت على آلاف الهكتارات في مركز مولاي عبد السلام.
في الطريق الرابط بين مركز بني عروس ودوار دار الحيط، أول ما تلتقطه العين مشهد نفوق قطيع من الخرفان تفوح منه رائحة كريهة، وطوائف من النحل متناثرة بكثرة على جنبات الجبال الممتدة على طول المنطقة، كلها تعرضت للتلف، ومنازل صغيرة مازالت شاهدة على هول الفاجعة التي ألمت بساكنة المدشر الصغير.
منذ وفاة أختها اختناقًا داخل بيتها الذي يوجد فوق تلٍّ صخري بدوار دار الحيط، لا تفارق نهى الوهابي مكان الفاجعة التي ألمت بساكنة المدشر الصغير؛ فرغم معالم الخراب ودخان النيران المتصاعد من بعض المتلاشيات، تأتي هذه المرأة الثلاثينية في كل صباح تحوم حول البيت المهدم، وفي بعض الأحيان تظل متسمّرة أمام هول هذا الخراب مثل الصّليب.
لا تبرح هذه السيدة مكانها، اختارت البقاء بالقرب من منزل أختها، الذي شبت فيه النيران، تارة تجمع الملابس المبعثرة أمام مدخل البيت، وتارة أخرى تغرق في تأمل طويل لا ينتهي إلا بدمعة ساخنة تسقط من جفنيها.. “أختي ماتت مخنوقة، رجعت إلى البيت بينما كانت النيران مشتعلة، رجعت من أجل استرجاع ذهبها ومجوهراتها، لكنها توفيت المسكينة داخل بيتها”، تقول.
الضحية الأولى
لطيفة الوهابي واحدة من ضحايا الحريق الذي نشب في مركز مولاي عبد السلام، تبلغ من العمر 45 سنة، كانت تعيش لوحدها في دوار دار الحيط، في وقت اندلع الحريق، كانت تعيش حياتها اليومية بشكل عادي، قبل أن تفاجأ بدخان كثيف قادم من أعلى الجبل؛ كانت في البداية تظن أنه حريق بسيط ستتم السيطرة عليه في وقت وجيز، قبل أن يباغت بيتها ويخطفها من عائلتها.
تحكي نهى الوهابي، أخت الضحية، أن الأخيرة كانت في بيتها لما اندلعت النيران، وكانت آخر شخص تواصلت معه قبل وفاتها، مردفة: “عندما حضرت السلطات إلى بيت أختي طلبت منها الخروج فورا، وقد انصاعت لطلب المسؤولين، غير أنها في لحظة فارقة انفلتت من الجميع وعادت إلى البيت من أجل إحضار مبلغ مالي وقطع ذهب، قبل أن تحاصرها النيران وتختنق”.
وتشير المتحدثة إلى أنها اتصلت بأختها يوم الإثنين 25 يوليوز عند الساعة الثانية والنصف زوالا، حينها كانت داخل بيتها والنيران تحاصرها من كل جانب، موردة: “اتصلت بها ثلاث مرات وأجابتني بصوت مبحوح؛ كانت تتحدث بصعوبة وتقول إنها تختنق وإن بيتها يحترق، كما كانت تودعني وتقول لي أختي أنا أموت…”.
وفي السياق نفسه، يحكي مصطفى الوهابي، أخ الضحية، وهو أول من حاول إنقاذ المتوفاة، أنه كان في دوار المعزل القريب من مدشر دار الحيط لما سمع خبر محاصرة النيران بيت أخته، موردا: “اتصلت بي أختي نهى وقالت لي بأن أتحرك على وجه السرعة إلى بيت أختي لطيفة من أجل إنقاذها من النيران، وصلت إلى المكان وأخرجنا أختي بمساعدة السلطات، غير أنها ولجت من جديد إلى البيت المحاصر بالنيران لإحضار قطع ذهب، لكنها لم تخرج أبدا”.
خسارة ثانية
يحكي مرافقنا إسماعيل المودن، الذي عاش كل أهوال الحريق في دار الحيط: “المنطقة تعرضت لمصيبة وأمر جلل، فهذا أكبر حريق عشته في حياتي”، مضيفا: “أصبحنا بدون مأوى ولم يعد لدينا ما نخسره”.
كما يشير مصطفى الوهابي إلى أنه تلقى اتصالا هاتفيا يوم الإثنين 25 يوليوز عند حدود الساعة الثالثة زوالا، وقد كانت النيران قد أتت على جبل الحبيب القريب من الدوار؛ لم يكن يعلم أن الحريق حاصر بيت أخته الواقع أعلى التل، لكن هذا الاتصال حمل أخبارا سيئة: “أختك تحترق. حاول إنقاذها”. لما وصل مصطفى إلى بيت العائلة وجد أخته محاصرة وسط النيران.. “دخلت عليها لقيتها جثة هامدة، كان جسدها سليما ولم تحترق جثتها”، يقول.
ويشير المتحدث ذاته، في تصريح لجريدة هسبريس الإلكترونية، إلى أن أخته كانت تعاني من مرض عقلي وكانت تعيش رفقة والدتها في المنزل، وزاد: “حاولت منعها من العودة إلى البيت، لكنها أصرت على ذلك وفقدت حياتها”.
أما بخصوص الضحية الثانية، التي هي امرأة سبعينية تعيش لوحدها داخل بيتها وسط دوار دار الحيط، فيقول إسماعيل المودن، الذي يعيش بالقرب منها، إن “السلطات المحلية وجدتها جثة هامدة داخل بيتها” مبرزا أنها حاولت الفرار بجلدها، لكن لما بلغت الباب الخارجية وجدت النيران تحاصر المكان، فقررت العودة وانزوت تواجه مصيرها لوحدها حتى اختنقت.
وقال المتحدث إن السلطات منعته من إلقاء نظرة أخيرة على جثمان الفقيدة التي تم نقلها إلى مستودع الأموات بالعرائش، موردا: “معرفناش واش ماتت محروقة ولا مخنوقة، ولكن منين دخلنا لبيتها لقيناه عادي وموصلاتوش لعافية”.
عند دخولنا منزل الضحية كانت هناك معالم حياة بئيسة واضحة للعيان، بضع طحين تحول إلى رماد وساعة تقليدية معلقة بثبات فوق مدخل البيت، توقفت عن الخدمة عند الساعة الثانية والنصف؛ وهو توقيت اندلاع الحريق هنا، وسجادة صلاة كانت موضوعة فوق طاولة خشبية، بينما كان المكان مليئا بالمتلاشيات، كأن إعصارا مدمرا مر من هنا.
تماس كهربائي
فور علمهم بوجود غرباء في المدشر المحترق، التحق بنا عدد كبير من سكان دوار دار الحيط، قادمين من مقر سكناهم الذي تحول إلى ما يشبه الأطلال.. “ضاعولي ست بقرات وجوج نعجات وخمسة خرفان. ما عندي ما ناكول”، تقول أم كلثوم، التي تعيش مع زوجها وثلاثة من أبنائها، بلغة جبلية محلية، مضيفة أنها علمت بالحريق وهي بصدد إعداد وجبة الغداء لأبنائها.
وبعيدا عن منزلها المتفحم الواقع في أعلى الجبل، كان مشهد نفوق قطيع الخرفان مروعا للغاية، وعنه قالت المكلومة: “ها نتا كاتشوف الحبيب، بقا فيا لحال. أنا غير وحدانية قتلاتني القهرة والفقسة”.
“عندما أدركنا أن الحريق ليس بالسهولة التي كنا نعتقد، كان قد فات الأوان. لم أستسلم وقررت إنقاذ ما قدرت عليه”، يقول عبد الرحمان الشركي، زوج أم كلثوم، مضيفا: “الغابة تحولت إلى مقبرة تفوح منها رائحة الموت”، وزاد: “معندي ما نبقا ندير هنا”.
وبعيدا عن مظاهر البؤس المنتشرة في كل مكان، بما فيها المنازل المتفحمة والملابس الملطخة بالرماد والوجوه المتجهمة ذات المعالم الحادة والقاسية، يجلس عبد السلام الوهابي وحيدا بعيدا عن الفضوليين، ولما سألنا عن حاله تبين أن بيته تعرض لدمار مهول، كما احترق محله التجاري.. “بغيت فين نسكن يرحم يمّاكم”، يقول الخمسيني الذي كان يرتدي ملابس شتوية رغم حر الجو.
وفضل عشرات المواطنين قضاء الليلة في العراء ووسط الساحات خوفا من وصول النيران إلى مساكنهم، فيما وفرت مصالح قيادة بني عروس السكن لبعض النساء، وتم نقل حبلى إلى المستشفى الكائن بمركز مولاي عبد السلام بعد تعرضها للاختناق.
ولاحظت هسبريس وصول تعزيزات جديدة إلى منطقة اشتعال النيران بالقرب من مركز بني عروس التابع لإقليم العرائش، حيث توافدت شاحنات لنقل المياه تابعة للوقاية المدنية إلى المكان، وأجرت تدخلات ميدانية لوقف زحف النيران.
وفي أعلى قمة من الجبل المحترق يوجد بيت أحمد العثماني؛ لا يقوى على الكلام، فقط بضع كلمات يجمعها بصعوبة: “خلاونا بوحدنا ما سول فينا حد، واش نرميو راسنا في البير؟”، مضيفا أنه خسر كل شيء ويريد فقط أن يستفيد من تعويض عن الخسائر التي تكبدها.
وتشير المعطيات الأولية إلى أن الحريق الذي اندلع منذ الإثنين انطلقت شراراته من دوار دار الحيط التابع لإقليم العرائش. ويقول محمد الذي يشتغل حارس غابة في المنطقة إن “هناك من يقول إن تماسا كهربائيا وراء هذه الحرائق”. لكن هذه الرواية تبقى ضعيفة، بالنسبة لعديد من ساكنة المنطقة، حيث تشير تصريحات المواطنين إلى أن هناك أمورا غير مفهومة قد تفسر انتشار هذه الحرائق بهذه المنطقة.
كما يذهب في الاتجاه نفسه إسماعيل المودن الذي عاش كل أهوال الحريق منذ بدايته، موردا: “الجميع يتحدث هنا عن وقوع مشكل في التيارات الكهربائية، وهو ما تسبب في اندلاع الحريق”، وزاد: “نريد أن نعرف سبب الحرائق، وإذا كانت من عند الله حنا راضيين بيها، وإذا كانت من العبد بغيت ربي يظهر فيه العلامة”.