قبل خمس سنوات، تم إطلاق برنامج “مصالحة”، الرامي إلى مواكبة وتأطير نزلاء المؤسسات السجنية المعتقلين في قضايا الإرهاب والتطرف. وبفضل هذا البرنامج، تم تحييد عدد من المعتقلين عن الفكر “السلفي الجهادي”، وأُطلق سراح عدد منهم بعد تأكيدهم “تشبثهم بثوابت المملكة”، و”اعترافهم بمؤسسات الدولة”.
عبد الله اليوسفي، واحد من المعتقلين الذين انتشلهم برنامج “مصالحة” من أتون التطرف والإرهاب؛ إذ كان من أنصار تنظيم “القاعدة”، وبسبب ذلك دخل السجن، وخرج منه، بعد سنوات من الاعتقال، بفكر مختلف، حيث تخلص من “الأفكار المتطرفة” التي كان يحملها، وغيّر قناعاته السابقة بشكل جذري.
يشتغل عبد الله اليوسفي حاليا باحثا في الرابطة المحمدية للعلماء، وهي مؤسسة تابعة للدولة تشرف على برنامج “مصالحة”، ويتبنى خطابا دينيا وسطيا، بعدما كان ولاؤه في السابق لجهات خارج المغرب، أي إلى التنظيم الإرهابي الذي كان من أنصاره.
“كنا ننشد العدالة الاجتماعية، والدولةَ التي تنصر العدل والإخاء والحرية، وكان لنا موقف من أمور، من بينها أخذ مسافة من مؤسسات الدولة، وكان لنا موقف من الأنظمة العربية التي كنا نرى أنها وظيفية ويجب التعامل معها بحذر”، يقول اليوسفي في المناظرة التوافقية التي نظمتها المندوبية العامة لإدارة السجون وإعادة الإدماج، بحر هذا الأسبوع، حول دور البحث العلمي في إدماج السجناء.
نجح علماء الرابطة المحمدية للعلماء، وعلى رأسهم رئيسها أحمد عبادي، في إبعاد عبد الله اليوسفي من “الفكر الإرهابي”، وصار الآن ينظر إلى الواقع من زاوية مختلفة كليا عن الزاوية الضيقة التي ينظر من خلالها “الجهاديون” إلى شؤون دنياهم.
وأضاف اليوسفي بناء على تجربته الشخصية: “استراتيجية الجهاديين هي الولاء للجماعة وليس للدولة، وكان لنا هوى خارج المغرب وكنا نعيش أحلاما خارج طاقاتنا”.
لم يتم استقطاب اليوسفي من “جماعة جهادية” لقوة خطاب “السلفية الجهادية”، بل انزاح نحو الفكر المتطرف بعدما وجد نفسه وسط دوامة من الأسئلة الحارقة لم يجد لها جوابا لدى الفقهاء المغاربة.
وقال: “لم يتم استقطابي ولكن تأثرت بخطاب أقطاب جماعة الإخوان المسلمين، مثل سيد قطب. كنت أدرس في معهد للتعليم العتيق وكانت لدي أسئلة حارقة لم أجد لها أجوبة من الأساتذة الذين كانوا يتحرّجون حتى من الإجابة عنها”.
وانتبهت الدولة إلى الكوّة التي تسلل منها الخطاب المتطرف إلى عقل اليوسفي وغيره من الشباب الذين جرفهم تيار التطرف والإرهاب، بإعادة هيكلة الحقل الدينية، عقب الأحداث الإرهابية التي شهدتها مدينة الدار البيضاء عام 2003 وأفضت إلى اعتقال المئات من شباب “السلفية الجهادية”.
وفي عام 2017، ارتأت الدولة التعاطي مع مشكلة التطرف والإرهاب بمقاربات أخرى غير المقاربة الأمنية الصرفة، لا سيما في الشقين الفكري والاجتماعي، حيث تم إطلاق برنامج “مصالحة” من طرف المندوبية العامة لإدارة السجون وإعادة الإدماج، بشراكة مع الرابطة المحمدية للعلماء، والمجلس الوطني لحقوق الإنسان.
ويركز البرنامج على عدة أبعاد، منها التأطير الديني، بهدف فهم النص الديني على النحو الصحيح، وتبني قيم الوسطية والاعتدال، إضافة إلى البعد القانوني والحقوقي، والتأهيل السوسيو-اقتصادي، والتأهيل النفسي.
وأكد عبد الله اليوسفي أن برنامج “مصالحة يكتسي أهمية كبرى لأنه أتى في سياق كان متسما بارتفاع الظاهرة الإرهابية، سواء في المحيط الوطني أو الإقليمي، مع بروز تنظيم داعش”.
وأضاف أن “البرنامج كان بالنسبة إليَّ ذا أهمية كبرى، وتكمن أهميته في عدد من المستويات، أولها الشأن الديني، لأن عددا من المعتقلين كانت لديهم إشكاليات حول مفاهيم دينية يلفها الغموض، مثل الجهاد، ودار الكفر والإيمان، والتكفير والهجرة، وغيرها من المفاهيم التي كانت ملتبسة”.
وزاد بأن “المحاضرات الدينية التي ألقاها الدكتور عبادي (رئيس الرابطة المحمدية للعلماء) تركز على تفكيك المفاهيم وإعادة تبسيطها وشرحها، وهذا ما جعل عقول المعتقلين تنفتح على مفاهيم جديدة، لأن التيارات الجهادية تعيش على المفاهيم التي تروجها وتقتات عليها”.
ووضّح أنه بعد اعتقاله وجد تناقضا في خطاب الجهاديين فيما بينهم؛ “فحينما نسألهم هل نقاتل الكفار لعداوتهم أم لكفرهم؟ يقولون: وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة، ويتجاهلون نصوصا قرآنية أخرى لا تبيح سوى قتل الكفار الذين يقاتلون المسلمين، وهذا الأمر المنصوص عليه في القرآن موجود حتى في القوانين الوضعية الحديثة، تطبيقا لمبدأ الدفاع الشرعي عن النفس”.
وتابع قائلا: “أيضا لا يتحدثون عن الآيات التي ينهى الله فيها المسلمين عن مقاتلة الذين لم يقاتلوهم في الدين، ونصوص أخرى يتجاهلونها من أجل الترويج لمشروعهم، ما حدا بي إلى التراجع عن المفاهيم التي يروّجونها لعدم اقتناعي بها، حتى جاء برنامج مصالحة الذي عزز هذه الشكوك”.
وعلاوة على الجانب الديني، نوّه اليوسفي إلى أن إعطاء المشرفين على برنامج “مصالحة”، عناية للتأهيل النفسي لفائدة المعتقلين المحكومين في قضايا التطرف والإرهاب، أثمر نتائج مهمة، “لأن عددا من المعتقلين يعيشون حالة نفسية واجتماعية صعبة، وكان لا بد من التركيز على هذا الجانب، حيث أثّر فيهم التأهيل السيكولوجي وغيّر مسارهم وأبعدهم عن الأفكار المتشددة والغلوّ”، على حد تعبيره.
ولفت إلى أن برنامج “مصالحة” اهتم أيضا بالجانب الاجتماعي، “لأن عددا من المعتقلين كانوا يعيشون ظروفا صعبة، وقد مكّن البرنامج من اندماج عدد منهم بشكل إيجابي في المجتمع”، موردا: “أنا أصبحت باحثا في الرابطة المحمدية للعلماء، وواصلت دراساتي العليا في سلك الماستر، وهذا يعني أن البرنامج لعب دورا محوريا في تغيير مساري جذريا”.
وكان العفو الملكي بمناسبة عيد الأضحى قد شمل مجموعة من المحكومين في قضايا الإرهاب أو التطرف، بعدما أعلنوا بشكل رسمي تشبثهم بثوابت الأمة ومقدساتها وبالمؤسسات الوطنية، وبعد مراجعة مواقفهم وتوجهاتهم الفكرية، ونبذهم للتطرف والإرهاب وعددهم 11 نزيلا.