ختم جلالة الملك عطلةَ الجالية المغربية التي زارت بلادها بالملايين.. ختاما طيِّبا وأهداها هدية تليق بكرم المانح وفتح أمامها أفقا افضل، عندما وضعها في صلب المستقبل القريب والمتوسط المدى،من خلال تركيزه في الشق الثاني من خطاب ثورة الملك والشعب على قضاياها وتثمين وجودها.
ولعل هذا ما يطرح سؤالا عميقا وعريضا، يجد مشروعيته أولا في ما عبر عنه جلالة الملك من نقص واضح من طرف السياسات العمومية ، في التجاوب مع معطيات الواقع الجديد للمغاربة العالم، وثانيا في ما هو منتظر من المسؤولين عن شؤون الجالية . وهذا السؤال العريض والعميق هو : هل تملك الحكومة الحالية ، فعليا القدرة والكفاءة والفهم الكافي والأدوات المؤسساتية والادارية للتجاوب مع ارادة الملك ومع طموحات مغاربة العالم ، ثم مع اشكالية الهجرة بشكل يتماشي وادوارها المنتظرة في تنزيل النموذج التنموي الجديد؟
ـ1ـ لعل أول ملاحظة ستتبادر الى ذهن المتابع ، هو أن الهندسة الحكومية، في تركيبتها الوزارية لم تستبق الوضع وتضع في حسبانها وزارة للهجرة والمهاجرين، التي كانت موجودة قبلها لسنوات وحتى ان ما تراكم في هذا الباب صار في حكم العدم!!
واذا كانت الوزارة قد لا تمثل الحل السحري، فهي على الاقل تعطي عربون اهتمام وحسن نية من طرف الحكومة في وضع سياسة الهجرة في الموضع الواضح
وذي الاولوية. وتجعل للمعنيين مخاطبا مؤسساتيا ، يخضع للمراقبة والمحاسبة البرلمانية .. بالنسبة للقوى الحية، والتي يوجد مغاربة العالم من ضمن منخرطيها أو قواعدها وخبرائها ..الخ الخ.
2ـ لا يبدو أن المؤسسات العمومية ذات الصلة وبالنظر الى ما انقضى من عمر هذه الحكومة، ومن زاوية ما قدمته كحصيلة الشهور التي مضت… تدرك حجم الخصاص والمجهود المتوخى لتداركه.. ولعلها لن تستطيع تجاوز العتبة التي سبقتها الحكومات التي كانت تملك وزارة متخصصة في شأن المغاربة في الخارج.
ومن أبرز المعطيات في هذا الباب ما توصلت إليه دراسة قام بها مجلس الجالية المغربية بالخارج وأصدرها تحت عنوان « في الحاجة إلى سياسة عمومية تستجيب لانتظارات الجالية المغربية بالخارج – حصيلة الولاية التشريعية التاسعة وما بعدها ». و من نتائج هذه الدراسة التي تزامن توقيت إصدارها مع الخطاب الملكي في 20 غشت أن «تحليل الأرقام والإحصائيات التي لها علاقة بالفعل التشريعي والرقابي للبرلمان خلص إلى وجود العديد من النقائص في اهتمام نواب الأمة بقضايا الجالية المغربية، من بينها تخصيص مجلس النواب لجلسة شهرية وحيدة طيلة الولاية التشريعية التاسعة لموضوع الجالية..». وهو أمر لم يتم تجاوزه في الولاية الحالية …
ودققت الدراسة في هذا الجانب التشريعي التنفيذي المشترك ، وقدمت امثلة حية، منها «أن عدد الأسئلة التي تهم قضايا الجالية المغربية بالخارج يبقى جد متواضع مقارنة مع مجموع الأسئلة المطروحة في البرلمان، بحيث بلغ على سبيل المثال مجموع الأسئلة المطروحة بمجلس النواب خلال الولاية التشريعية التاسعة 36 ألف و823 سؤالا، بينما بلغت الأسئلة التي تخص الجالية 247 سؤالا فقط، وهو ما يمثل 0.67 في المائة من مجموع الأسئلة». وذلك مع وجود قطاع وزاري مخصص ويخضع للمساءلة، في حين ان ذلك ينتفي في الحكومة الحالية..
و هناك تخوفات جدية بأن هذا المستوى من المتابعة في الولاية الحكومية لن يتم الوصول اليه، اذ ستنتهي في احسن الاحوال ب1٪ من مجموع الاسئلة المطروحة في مدة الانتداب كلها!
3ـ في ضرورة اصلاح المنظومة المؤسساتية لمغاربة العالم، لا يبدو أن للحكومة رأي دقيق أو مشروع مفصل أو مخطط متكامل يجعلها تتجاوب مع دعوة الملك الصريحة الى تجويد الانتاج المؤسساتي للمؤسسات الموجودة، ولا هي طرحت خارطة طريق للعمل معها وتطوير السياسيات العمومية المرتبطة بمغاربة العالم، في تناغم مع اجبارية تأهيل مؤسسات الحكامة التي استنفذت دورها أو اصابها الوهن.كما يستفاد من الخطاب الملكي…
وهنا كان كلام الملك واضحا لا غبار عليه، عندما أوضح أن المنجز المؤسساتي قد استنفذ أدواره وصار دون الطموح الدستوري للبلاد كما تحدد في 5 فصول من فصوله (16ـ17ـ18ـ30ـ163).. وبعضها ضمَّنها الملك خطابَ ثورة الملك والشعب، لا سيما منها الفقرة الثانية من الفصل 16 والمتعلق بالحرص «على الحفاظ على الوشائج الإنسانية معهم، ولاسيما الثقافية منها، والعمل على تنميتها وصيانة هويتهم الوطنية».
4 - في الورقة التأطيرية التي تهم مشروع قانون المالية ، 2023 ، اكتفت الحكومة من خلال المذكرة بالعموميات والعناوين العريضة التي لها الصلة بالجالية بدون ترتيبات محدده ومقترحات مفصلة، وكانت «الفقرة المخصصة للجالية قد تحدثت عن تجويد ولوج مغاربة العالم إلى أرض الوطن، ثم تعزيز إشراك الكفاءات العليا في إنجاز المشاريع وتنزيل النموذج التنموي الجديد … الخ الخ ، بدون تقديم مقترحات عملية، أو تحديد أولويات وعتبات يمكن أن تعطي رؤية واضحة لقانون المالي، الذي يفترض في لغته أن تكون ذات ملموسية ونفاذ ..
كما أن مضمونه العملي أقل بكثير من الواقع نفسه الذي تعيشه الجالية ويعيشه معها وطنها المغرب من حيث الحضور والمساهمة في الثروة الوطنية..
4ـ الأكثر أهمية هو أن المواضيع التي تم تسجيلها في دراسة المجلس لم تعْدُ أن ركزت على «التدابير والإجراءات» بدل التركيز على إرساء سياسات عمومية.. وهي بيت القصيد ، في عمق الخطاب الملكي السالف ذكره وفي عمق متطلبات القفزة المنتظرة في تدبير قضية مغاربة العالم..
ولعل من أبرز الخلاصات في الدراسة، والتي تساءل الحكومة المغرورة بنفسها«عدم الانسجام بين ما دعت إليه الخطابات الملكية وما ورد في الدستور المغربي حول موضوع الجالية المغربية، وبين السياسات الحكومية المنتهجة. وقد تمثل ذلك في عدم وضع سياسة عمومية منسجمة وشاملة موجهة لأفراد الجالية المغربية بالخارج، واقتصار المنجز الحكومي على مجموعة من التدابير الإدارية والتشريعية والاقتصادية والاجتماعية، وهو ما يفسر تعذر تنزيل المضامين الدستورية المتعلقة بالجالية المغربية في صيغة سياسات عمومية وتشريعات وقوانين…»!
5 ولعل مما يثير التأمل، حتى لا نقول الحيرة، هو أن مذكرة رئيس الحكومة، اقتصرت في تقديم مقترحاتها في ما يخص المشكلة التي أثارها ملك البلاد، بخصوص تشجيع الاستثمارات بالمغرب«في اعتماد سياسة تواصلية استباقية في هذا الشأن»…وكأن الأمر مجرد عملية «كوم» كما يقول اهل الاختصاص، عملية تلميع مؤدى عنها!
والواقع أن السياسة التواصلية للحكومة لم تقنع أحدا، بل إنها عجزت في التواصل مع الرأي العام الداخلي ولجأت إلى مراوغات لم يسبقها اليها احد في كوكب الارض بخصوص السياسة التواصلية.. وقد كانت لنا مناسبة للحكم عل هذه السياسة التواصلية ابان ازمة البلاد والاحتقان الكبير الذي عرفه المغرب بسبب عملياتها التواصلية ذاتها!