إذا تجاوزنا المشاكل التقنية، المرتبطة بالكتاب، والمتعلقة بظروف طبعه ونشره وترويجه وعرضه، فإن أكبر عائق حقيقي يواجه الكتاب، ويهدده فعلا هو عدم قراءته، وعدم الرغبة في قراءته، ثم عدم الاستفادة المرجوة من مخرجاته في حالة قراءته، ما يعني في النهاية، عدم الإيمان بجدوى القراءة، حتى بالنسبة للكثير من المتعلمات والمتعلمين، وهذه لوحدها تتطلب معركة خاصة وتقتضي مجهودا استثنائيا لمعالجتها.
ويبدو أن جل المقاربات التي تتحدث عن مشكل القراءة عندنا، لم تفلح إلى حدود اليوم، في فك هذا العائق، الذي تحول مع طول الأمد إلى ما يشبه المرض المزمن؛ ففي كل مرة يتم اعتماد نفس المقاربات، فيتم جرد الأرقام حول محدودية القراءة في صفوفنا، ثم نغرق في الحديث المطول حول عموميات، وأحيانا حول معطيات لا منطق لها ولا معنى، دون أن نتمكن من القبض على أصل المشكل، ما يعني أن الحديث عن مشكل القراءة عندنا أصبح جزءا من أزمتها، بدل أن يكون جزءا من الحل.
لماذا لا نقرأ؟؟ هذا هو السؤال العريض، الذي يتطلب إجابة صريحة وواضحة، والجواب البديهي، الذي يقابل هذا السؤال مباشرة هو، لا نقرأ، لأننا لا نؤمن بجدوى القراءة، لأننا لا نحتاج إلى القراءة في تدبير أمورنا؛ فجل شؤوننا نجريها ونداريها بالجهل وبالأمية، وبالمصالح الخاصة وبالعلاقات المشبوهة وبالتدخلات البذيئة؛ وجل مسؤولياتنا يتولاها من لا يقرؤون، وليست المعرفة شرطا ضروريا عندنا لتقلد المناصب وتصدر المجالس، وإن كان ولا بد، فالشواهد المنسوخة والمنقولة والمغشوشة تفي بالغرض.
إن القراءة في النهاية ليست إلا وسيلة لحيازة الجاه والمال والسلطة، وبعدها ليكن ما يكون؛ من هنا نستطيع أن نفهم، بل وأن نتفهم، مدى انتشار ظاهرة الغش عندنا وفي مدارسنا وجامعاتنا، فالأمر يتعلق بالمعرفة (القراية)، التي تحولت عند أغلبنا إلى مجرد طريق لأشياء أخرى، هي أبعد ما تكون عن حرمة الدرس والعلم، وبالنسبة لأغلب المؤسسات التي تستثمر في القراءة أو ما يسمى كذلك، ما يهمها في البداية والنهاية جميعا هو، ما ستراكمه من أرباح وعوائد مادية لا أقل ولا أكثر، ما يعني أن الكتاب ليس إلا بضاعة ثقيلة، قيمتها فيما ستذره من مال ومصالح. هذه بعض التفاصيل القليلة التي يمكن أن تفيد في مقاربة ما يسمى عندنا عزوفا عن القراءة، وفي التفاصيل الحقيقية تكمن الحقيقة، أو الشياطين كما يقول الفرنسيون، ويكفي أنه لا معنى لأي حديث عن كل شعاراتنا المرفوعة اليوم، في ظل غياب شبه كلي للقراءة، بالمعنى الجاد للكلمة؛ الأمم المتقدمة تفكر وتبدع في تنزيل مخرجات القراءة بما يفيد مجتمعاتها، ونحن ما زلنا نتحدث عن مطلق القراءة وعن محاربة الأمية، حيث لا محاربة حقيقية هناك، وندعو المتعلمين منا إلى عدم الغش في الامتحانات، وفي إعداد البحوث وفي كتابة الرسائل، كما ندعو مسؤولينا إلى عدم شراء الشواهد وتزويرها. (هل يمكن أن نقرأ)، في ظل ما يحوطنا من عوائق ومعوقات؟ وفي ظل هذا الهجوم المعلوماتي الكاسح، الذي لا قبل لأكثرنا به؟؟ يبدو أن هذا هو السؤال الذي يليق بمقامنا اليوم، بدل سؤالنا التقليدي، (لماذا لا نقرأ) الذي لم يعد له من معنى.