تطلعٌ لإمكانٍ آخر للإنسان، تصوّرٍ يوتوبي جديد للمتوسّط والعلاقة بين دوله وثقافاته والعالَم، رغم واقع التمثلات الجاهزة والعنف والكراهية، تطمح إليه أكاديمية المملكة المغربية في أحدث دوراتها المعنونة بـ”البحر الأبيض المتوسط أفقا للتفكير”.
هذه الدورة السابعة والأربعون من دورات أكاديمية المملكة، انطلقت يوم الثلاثاء 24 ماي الجاري ومن المرتقب أن تستمر إلى اليوم السابع والعشرين منه بمقر الأكاديمية بالعاصمة الرباط، بمشاركة أكاديميين من ضفتي المتوسط.
“البحر الأبيض المتوسط أفقا للتفكير”
تنظم دورة “البحر الأبيض المتوسط أفقا للتفكير” بعد سلسلة من المحاضرات الافتتاحية التي سعت لتلمس وجود مخيال متوسطي من عدمه، تاريخا وفكرا وفنا، وتطلّعت لإمكان بناء “هوية متوسطية” وجسور بين الشعوب والثقافات والدول المحيطة ببحر شاهد على قيام حضارات وأفكار وتلاقح ثقافات، وعلى صراعات وأحكام ومآسٍ، منها المستمرّ إلى يوم الناس هذا.
وانتقدت ورقة عمل هذه الدورة تركيز دول الاتحاد الأوروبي المستمر على “مسألة الهجرة لأسباب سياسية داخلية بالدرجة الأولى”، ووصفت الوضع بـ”شرق الحوض المتوسطي” بأنه “كارثي فعلا بسبب الفوضى الحاصلة جراء الحروب الأهلية، وفشل وتصدع الدول وحركات الهجرة والمآسي الناجمة عن هذه الاضطرابات”.
كما سجلت الحاجة الملحة إلى “مساءلة ومراجعة منظومة القيم لصالح بناء سياسات تتسم بالعقلانية والتشاركية واستثمار ما تراكم عبر آلاف السنين من تاريخ مشترك وإحساس بالانتماء، واستحضار روح الثقافة المتوسطية قصد تجاوز كل انغلاق هوياتي أو انطواء على الذات”.
وتبحث هذه الدورة في تاريخ المتوسط، وفي المتوسط بوصفه فضاء فلسفيا فكريا، وفي أبعاده الإيكولوجية والعلمية والاقتصادية والاجتماعية، ومشاريعه التنموية، وتحولاته الجيو-سياسية والجيو-استراتيجية، في سبيل “تبادل الخبرات والتجارب بين الباحثين في قضاياه”، و”تأكيد خصوصيته الثقافية والحضارية” و”توفير وثائق مرجعية علمية وموضوعية حول قضايا البحر الأبيض المتوسط”.
وشهدت الجلسة الافتتاحية حضور سفراء دول من المنطقة العربية والقارتين الأوروبية والآسيوية، فضلا عن أكاديميين وباحثين ومسؤولين من جنسيات متعددة.
“بحار المتوسط”
“كل رغبة في بدء الحوار تستدعي التفكير في بحار الأبيض المتوسط بدلا من البحر الأبيض المتوسط”، وفق أمين سر أكاديمية المملكة عبد الجليل لحجمري؛ بمعنى أن التفكير في إمكان متوسطي يجب أن ينطلق من فكرة “التنوع” بدل السعي إلى “الوحدة”.
هذا المتوسط الذي يصفه إدغار موران بكونه يمثل “مواجهة بين كل ما يشكل تعارضا في العالم: الشرق والغرب، الشمال والجنوب، الإسلام والمسيحية، العلمانية والدين، الأصولية (النصوصية) والحداثة، الثروة والفقر”، ينظر إليه عبد الجليل لحجمري بوصفه “واقعا شعريا وأسطوريا يتوق إلى وحدة جعلت من المتوسِّطيّة أملا معلَّقا، ومحلوما به”.
واستعار لحجمري من المتوسط “بياضه” للحديث عن الحاجة إلى “صفحة بيضاء”، في السياق الجيو-سياسي الحالي، أو رغم واقعه وإكراهاته؛ لكتابة “يوتوبيا جديدة” (أي تصور مدينة فاضلة مغايِرة).
هذه اليوتوبيا، وفق لحجمري، تتوزع قضاياها “بين المناخ والبيئة، والتجارة والاستثمار، والطاقة، والثقافة وحماية التراث، والهجرة”، قبل أن يتوقف مؤكدا على أن إمكان بروز “هوية متوسطية” لن يكون إلا “عن طريق سياسة ثقافية تعمل على تكسير التمثلات الكاذبة، والقوالب الجاهزة المليئة بسوء الفهم والكراهية والإقصاء”.
وتحدث أمين السر الدائم للأكاديمية عن المتوسط وحضارته التي تعود إلى أزيد من 9000 سنة قبل الميلاد، وتعدد تسمياته، والحضارات التي ازدهرت في ضفتيه، من قبيل: البابلية والآشورية والفرعونية والإغريقية والفارسية والرومانية والإسلامية.
هذا التاريخ الذي جعل المتوسط “ملتقى للأفكار والأديان والفنون والآداب”، يذكر لحجمري أنه ما يزال في حاجة إلى البحث والدراسة “لا من أجل فهم ما مضى فحسب، وإنما من أجل فهم واقعنا ومستقبلنا، والتمعّن في تعاقب هذه الحضارات وما خلّفته من إرث هائل في المدَنيّة والعلم والفنون والثقافات، فضلا عن كون المنطقة مهبط الرسالات السماوية”.
ومع تسجيل لحجمري أن المتوسط “لم يكن دوما مرادفا للسلام”، ذكر أن هذا البحر، عكس ما ذهب إليه الجغرافيون، ليس مغلقا بل هو “البحر الأكثر انفتاحا لكونه يسَّر انتقال الحضارات والأفكار بين ضفافه شرقا وغربا وشمالا وجنوبا”، وهو ما يستدعي، في ظل اضطرابات القرن 21، “تمثلا جديدا لرهانات العيش المشترك يلقي بظلاله على النظم السياسية والاقتصادية والثقافية لبلدان المتوسط، ويعيد ترتيب الأولويات لدى الأفراد والجماعات والكيانات لتجاوز عدم الاستقرار على خلفية تنامي الهجرة غير الشرعية، وتعاظم الإرهاب، وتأثيرات التغير المناخي على الاقتصادات”.
وتبرز مع هذا التطلع، وفق لحجمري، أهمية “تطوير سياسة تعاون وحسن جوار متعددة الأطراف وشراكة أورو-متوسطية منتجة وفعّالة”، في زمن نحن فيه “شهود على انبثاق ملمَح حضاري جديد، يستتبع ابتكار أفق مغايرٍ للتفكير في قضايا العصر”.
فرصة أمام الإنسان
فرصة خلاصٍ أمام البشرية نبه إليها الأمير الأردني الحسن بن طلال، عضو أكاديمية المملكة المغربية، الذي قال إننا نتميز، كما سجلت الباحثة إيفلين ليندنر، بـ”القدرة على رؤية كوكبنا من الخارج”؛ أي “رؤية الأرض ككل، ككيان مشترك، نتشاركه ضمن اتساع الأكوان الأخرى وأنظمة الطاقة الشمسية”.
هنا، سجلت كلمة المتحدث التي ألقاها نيابة عنه محمد الكتاني، أمين السر المساعد للأكاديمية، أن “هذا يجعل أفقنا أوسع بما يكفي لفهم أننا نحن البشر نوع واحد فقط من بين العديد من الأنواع التي تشترك جميعها في نفس الكوكب الصغير، وأن التعاون العالمي فقط هو الذي يمكن أن ينقذنا”.
وتابع الحسن بن طلال: “لأول مرة، نحن مستعدون لبناء الثقة اللازمة لتحقيق التضامن على نطاق عالَمي، لدينا جميع الموارد اللازمة لجني الفوائد التي يوفرها التجمع العالمي للبشرية. يمكننا الاستفادة من جميع الخِبرات، الماضية والحالية، من أقدم حكمة السكان الأصليين إلى أحدث المعارف العلمية”؛ مما يعني أن “المشاركة في إنشاء قرية عالمية أصبح ممكنا”.
في مثل هذا الوضع، تساءل بن طلال: “أين نقف كبشرية؟ هل نحن قادرون وراغبون في اغتنام الفرصة التاريخية المتاحة أمامنا والتعاون على الصعيد العالمي أم إن طبيعتنا البشرية تحتّم علينا أن نكره ونقاتل ونتنافس على الهيمنة واستغلال كوكبنا وبعضنا البعض؟”.
وفي المنطقة المتوسطية، يرى ولي العهد الأردني السابق أنها تحتاج “نماذج للتعاون الإقليمي لبناء الثقة وإتاحة الفرص للأشخاص الذين كانوا يعيشون ويتفاعلون على مقربة من بعضهم البعض، لإعادة اكتشاف بعضهم البعض، وخلق ثقافة جديدة للتعاون، وتوليد الأفكار لمعالجة بعد الموروثات منذ عقود طويلة من الزمن، وخلق مساحة للتفاعل ومناقشة التحديات المشتركة، وتوثيق العلاقات والتعاون والتكامل الإقليمي في كافة المجالات”.
وسجلت الكلمة أن “وحدة تاريخ البحر الأبيض المتوسط تكمن، على نحو متناقض، في قابليته للتغيير المستدام، وجمعه للجميع في الوطن والشتات”، موردة أن “تعزيز الوحدة والوئام في حوض المتوسط يتحقق عبر الاحتفاء بتنوعه العرقي واللغوي والديني والسياسي”.
وحتى “تتجسد اختلافاتنا في الانسجام”، يجب “تعزيز الحوار والتكامل في المنطقة من أجل مواجهة التحديات المتنوعة والمتداخلة في المنطقة، بما في ذلك النزاعات والهجرة وتغير المناخ”.
ومع تحول المتوسط من “بحر يحتضن الثقافات التاريخية والتنوع العرقي” إلى “بحر للأزمات والموت”، مع استمرار هرب المهاجرين عبره من مناطق النزاع والفقر والكوارث، شددت الكلمة على أن مثل هذه التحديات “لا يمكن مواجهتها من قبل دولة لوحدها”.
مشروع إنساني ممكن
تحدث الحبيب المالكي، عضو أكاديمية المملكة المغربية، عن البحر الذي لم يكن إلا خيالا في ذهن الطفل الذي كانه بأبي الجعد، شكّلته الحكايات دون أن تسندها صورة أو رسم، ليتطرق بعد ذلك للقراءات التي تعيد الإنسان إلى جذوره وثقافته وأهله وتذهب به إلى الأفق.
هذا الأفقُ مُتوسطيٌّ، وفق الدرس الافتتاحي للحبيب المالكي الذي أسس مجموعة الدراسات والأبحاث من أجل المتوسط، قبل ثلاثة عقود، من أجل التفكير في ما يوحد دول هذا الحوض، ولمد الجسور وتجسير العلاقات بين الخبرات والكفاءات والمستثمرين، وتوفير إطار للبحث حول المجتمعات المتوسطية.
ونبه المالكي إلى خطأ الظن بأن المتوسط معروف بالبداهة عند صناع القرار السياسي والاقتصادي؛ فعند الاطلاع “يرون أنهم لا يعرفونه حق المعرفة”، ومن هنا تظهر “قيمة المعرفة والفكر والعلم” وأنه “لا بد لحركة السياسة والمجتمع من حركة للفكر”.
ومن بين ما اقترحه المالكي على الأكاديمية، في كلمته، التفكير في بناء “رواية مغربية كاملة للمتوسط” عبر “موسوعة كاملة متوسطية مغربية”.
ودعا المالكي إلى زيارة نقدية جديدة لمكتبة المؤرخ فرنان بروديل، الذي مع إكباره لمنجزه ومنجز مدرسة الحوليات، إلا أنه تساءل: لماذا أهمل ثقل الحضور الإسلامي في المتوسط؟ ولماذا قلل من وعي المسلمين بهذا البحر الذي حققوا فيه عددا من الفتوحات والانتشار وإعادة الانتشار؟
وبعد ذكره أن التصور والمفهوم الراهن للمتوسط قد كان سببا من أسباب فشل الاندماج الأورو-متوسطي، تساءل المالكي عن “كيفية إعادة النظر في تمثلاتنا للمتوسط وتخطي أسطورته المهيمنة في الذهنيات، في ظل واقع عسكرة العلاقات الدولية، وهيمنة هاجس الخوف على الثقة، وبعدما صارت بلدانٌ متوسطيّةً ولو أنها لا تطل على المتوسط ولا تحاذيه”.
ويرى عضو أكاديمية المملكة أن الأفق الأورو-متوسطي “مشروع إنساني” تعبر فيه المتوسطَ أواصلُ التواصل بين الشمال والجنوب، وتعبر الرمزيات والمعاني المشتركة، ولا ينبغي أن يكون مجالا للغطرسة الفكرية ومحاربة طواحين الهواء والانغلاق والمحلية والنزَعَات الحمائية اليمينية، بل مجالا للانفتاح وحرية التنقل، والتنمية العلمية المتبادلة والنشر، وتكامل الكفاءات لا هجرة الأدمغة.
وسجل الحبيب المالكي في ختام كلمته أن المتوسط “مكان لكل الممكنات”، قبل أن يجمل بأنه “لا شيء مستحيل في هذا الأفق، وليس الصعب هو الطريق، بل أن نجده”.