قال المنتصر السويني، الباحث في العلوم السياسية والمالية العامة، إن “المهتمين بالشأن السياسي صاروا يصنفون الحكومات من خلال نتائج سياستها والفئات المستهدفة من خلال هذه السياسات”، موضحا أنه “إذا كانت هذه السياسات تهتم بالأغنياء يطلق عليها حكومات الأغنياء، وإذا كانت السياسات العمومية المطبقة في مرحلة الولاية التشريعية تهتم بالأغلبية الساحقة من الشعب الحقيقي، والتي تضم الفئات الشعبية والمعدومة والطبقة المتوسطة، يطلق عليها حكومة الأغلبية”.
وأشار السويني، في مقال له بعنوان “من أجل حكومة الأغلبية وليس حكومة الأغنياء”، إلى مجموعة من المحاور، أبرزها “حكومة الأغنياء وإشكالية المساواة أمام القانون والمساواة أمام الثروة”، و”حكومة الأغنياء هي الحكومة التي تتفوق فيها اليد الخفية على اليد المعلومة”، و”حكومة الأغنياء والنيولبيرالية أو الانتقال إلى عصر عمالقة الاقتصاد في مواجهة أقزام السياسة”، و”غياب حكومات القطيعة وحكومات التغيير عن الزمن السياسي المغربي الحديث يفتح المجال أمام تغول الاقتصاد”، و”الحد من سلطة المال…”.
وخلص الباحث ذاته إلى أن “أزمة كوفيد والحرب الروسية الأوكرانية تفرضان علينا إعادة اختراع نموذج تنموي فاعل، يضمن التوازن المطلوب ما بين التنمية والتضامن، والتوازن ما بين الدولة والسوق، والتوازن ما بين السيادة الوطنية والاندماج في الاقتصاد العالمي، وهو أمر ممكن”.
هذا نص المقال:
يقول إيليانور روزفلت: بدون مساواة لا يمكن أن تكون هناك ديمقراطية.
وقال جون بايدن: المستثمرون ليسوا في حاجة لي، ولكن يجب وضع حد لرأسمالية المساهمين.
ويقول السياسي الألماني كارل شميت: السياسة ليست مجالا مختلفا، ولكنها مجال للفعل الذي يتجسد من خلال القدرة على التقسيم والتفريق ما بين الأصدقاء والأعداء (والعدو الرئيسي هو المال وغياب حكامة الاقتصاد). وإذا كانت الوثيقة الدستورية تركز على التحالفات السياسية القبلية (تعيين رئيس الحكومة من الحزب المتصدر-الأحزاب المشكلة للأغلبية -البرنامج الحكومي)، إلا أن الشعب الحقيقي يبقى مهتما ليس باللون السياسي للأغلبية (التي يتم تشكيلها بشكل قبلي)، بل يركز اهتمامه على النتائج المرتقبة على أرض الواقع للبرامج والسياسات العمومية المزمع تطبيقها من طرف الحكومة (وبالتالي يحكم بشكل بعدي وعلى أرض الواقع ومن خلال نتائج السياسات العمومية وأثرها على المواطن ودافع الضرائب والمرتفق).
وبالتالي صار المهتمون بالشأن السياسي يصنفون الحكومات من خلال نتائج سياستها والفئات المستهدفة من خلال هذه السياسات، فإذا كانت هذه السياسات تهتم بالأغنياء يطلق عليها حكومات الأغنياء (وحيث إن الأغنياء يشكلون أقلية فإن حكومة الأغنياء تصنف كذلك في الغالب بحكومة الأقلية). وإذا كانت السياسات العمومية المطبقة في مرحلة الولاية التشريعية تهتم بالأغلبية الساحقة للشعب الحقيقي، التي تضم الفئات الشعبية والمعدومة والطبقة المتوسطة، يطلق عليها حكومة الأغلبية (وبالتالي يتضح أن الحكم على طبيعة الحكومات، هل هي حكومات الأغنياء أم حكومة الأغلبية، لا يتم بشكل قبلي -مرحلة التعيين (التعيين من طرف الملك) والتنصيب (الأغلبية البرلمانية)، بل يتم بشكل بعدي من خلال نوعية البرامج والسياسات العمومية التي تنفذها الحكومات والفئات التي تستهدفها هذه البرامج والسياسات، والأثر الذي تتركه هذه السياسات العمومية على المواطن والمرتفق ودافع الضرائب.
1)حكومة الأغنياء وإشكالية المساواة أمام القانون وكذلك أمام الثروة
من خلال المصادقة على الدستور الجديد الذي دخل حيز التطبيق سنة 2011، أنجز المغاربة الشق الأول من ثورتهم المتمثلة في الحد القبلي للسلطات من خلال الوثيقة الدستورية والمساواة أمام القانون، وبقي في انتظارهم استكمال الطريق من خلال إنجاز الشق الصعب والملتبس وغير المنجز، والمتعلق بالحد من سلطة المال من خلال الفوارق الكبيرة في الثروة. يقول دانيلو مارتسلي في كتابه -الشرط الاجتماعي الحديث- إن المساواة التي كان ينشدها ثوار القرن الثامن عشر تختلف عن المساواة التي ينشدها الثوار في القرن الواحد والعشرين، في القرن الثامن عشر كان الثوار ينشدون الحد من سلطة الحكام بشكل قبلي من خلال القانون، بينما ثوار القرن الواحد والعشرين ينشدون أكثر الحد من سلطة المال من خلال الفوارق الكبيرة في الثروة (التي تتجسد في الغالب بشكل بعدي، من خلال الضرائب).
الباحث اوف كلوس سيؤكد أن الحرب ضد المال والحرب ضد الديكتاتوريات السياسية لم تتوقف في تاريخ البشرية، ولكن الزمن الحاضر يثبت أن حلم المساواة بدأ ينتقل من المجال السياسي إلى المجال الاقتصادي. وإذا كان حلم المساواة في المجال السياسي تم حله بشكل قبلي من خلال الوثيقة الدستورية عبر التنصيص على توازن معين للسلط أو هندسة دستورية معينة، إلا أن حلم المساواة الاقتصادية لا يمكن تحقيقه من خلال التنصيص القبلي عليه في الوثيقة الدستورية، بل يتطلب جهدا كبيرا بعديا من خلال مساواة فعلية وواقعية في المواقع والحظوظ، ما يتطلب القيام بعملية تصحيح وتحيين، وبالتالي يتطلب الأمر إعادة تصور للمساواة في الميدان السياسي بشكل أولي وبشكل قبلي، وثانيا تصور المساواة الاقتصادية بشكل بعدي ومن خلال تدخلات بعدية في الواقع ومن خلال الحياة اليومية. السلطة السياسية من المفروض أن تعمل على التنمية الاقتصادية وخلق الثروة، ومن جهة أخرى العمل على الحد من الفوارق في السلطة التي ينتجها البحث عن التطور الاقتصادي وخلق الثروة.
أونطونيو كيدينز سيعمل على التفريق بين نوعين أساسين من الموارد: موارد التوزيع (المرتبطة بمراقبة الموارد المالية والاقتصادية)، ومن جهة أخرى موارد السلطة (المرتبطة بمراقبة التفاعلات الاجتماعية)، ويؤكد على الأهمية الكبرى التي تمثلها موارد التوزيع في المجتمعات الرأسمالية، حيث أن هذه المجتمعات تتميز باحتلال الاقتصاد للمكانة الأكبر، بل إنه يمثل حجر الزاوية، بخلاف المجتمعات ما قبل الرأسمالية، حيث السيطرة تترسخ من خلال مراقبة موارد السلطة.
حكومة الأغنياء هي الحكومة التي تحاول من خلال تحكمها في موارد السلطة مساعدة السوق على التحكم في موارد التوزيع. السيناتور الأمريكي في القرن التاسع عشر مارك هنا سيقول كلمته المشهورة، التي أكد من خلالها أنه في السياسة هناك شيئان مهمان؛ الأول هو المال والثاني لا أتذكره- كأنما كان يريد التأكيد على محورية المال في السياسة؛ ما يوضح أن الحكومة المغربية اليوم مطالبة بشكل كبير بإنجاز الشق الثاني من تنزيل الدستور(وهو الشق المرتبط بالمساواة الاقتصادية)، والمتعلق بالأساس بالحد من الفوارق في الثروة، من خلال تركيز الاهتمام على المساواة الاقتصادية والتركيز بالتالي على تمتين بنيان العقد الاجتماعي.
-2)حكومة الأغنياء هي الحكومة التي تتفوق فيها اليد الخفية (السوق) على اليد المعلومة (المؤسسات)
يقول السوسيولوجي الفرنسي -بيير بورديو- أن داخل الدولة تتمركز مختلف أنواع الرأسمال (العسكري-الاقتصادي-الرمزي…) هذا التمركز لمختلف أنواع الرأسمال هو الذي يصنع خصوصية الدولة. وخلص السوسيولوجي الفرنسي إلى أن الدولة هي سلطة على باقي السلط (وبالتالي من المفروض أن تكون سلطة على الاقتصاد وعلى الرأسمال) . وبخلاف ذلك فإن العصر الحاضر يتميز بنوع من المجتمعات التي يتم فيها الربط الفعلي بين المؤسسات السياسية والمؤسسات الاقتصادية، من خلال الترابط القائم بين الدولة الوطنية الاجتماعية واقتصاد السوق، ما يعني عمليا الانتقال من الدولة المتحكمة إلى الدولة التي تترك مكانها للرأسمال.
في المغرب لم يختلف الأمر عما يجري في التجارب الدولية، وهكذا، وعندما كان المغرب يهيئ لمرحلة التناوب السياسي، عمل على شرعنة إصلاح دستوري ينص على حرية المبادرة، وبالتالي يتضح أن العقل السياسي المغربي ومن خلال التهييء لمرحلة التناوب كان يعمل على تثبيت الثنائية الذهبية المعتمدة على فرملة اليد المعلومة من خلال العمل على دسترة اليد الخفية وقوى السوق. وليس غريبا أن حكومة التناوب عملت على تغيير مرسوم الصفقات العمومية بعد جمود النص السابق لما يفوق عشرين سنة (تطبيقا للمبدأ الدستوري المرتبط بتشجيع المبادرة الخاصة، التي تستهدف رفع يد الإدارة عن تقييد مشاركة قوى السوق في عملية الشراء العمومي من خلال منحها حماية دستورية). هذا التغيير كان تعزيزا لسلطة السوق وسلطة الرأسمال أمام سلطة السياسة. وكان الضوء الأخضر الذي جعل مرسوم الصفقات يعرف تحديثا في كل ولاية تشريعية تقريبا (كل حكومة جديدة تقدم جائزة إضافية لقوى السوق).
الحكومة الجديدة ستعمل على تقديم خدمات لقوى السوق من خلال المنشور المتعلق بسن تدابير استثنائية للتخفيف من آثار ارتفاع الأسعار وندرة المواد الأولية على الالتزامات التعاقدية في إطار الصفقات العمومية. بتاريخ 18/04/2022، صحيفة الإيكونوميست المغربية في افتتاحيتها هللت للإجراءات الواردة في هذا المنشور وصنفتها في مستوى سياسة النيو ديل المغربية، وبالتالي الباطرونا المغربية كانت جد مرتاحة للإجراءات الحكومية تجاه الاقتصاد والرأسمال. ورغم أن الأثر المادي الكمي لهذا الإجراء غير معروف بشكل دقيق، إلا أنه أثر كمي كبير ونوعي، ليتم التهليل له من طرف جريدة تعتبر ناطقة باسم الباطرونا ورجال الأعمال.
يقول الاقتصادي الإنجليزي أونطوني اتكنسونو، وهو أستاذ الاقتصادي توماس بيكيتي، في كتابه الفوارق، إنه مع مجيء مارغريت تاتشر للحكم في بريطانيا عمدت إلى تخفيض الضريبة على العمل من 83 في المائة إلى 60 في المائة إلى 40 في المائة. هذا التخفيض الكبير سيدفع أحد البرلمانيين المحافظين المنتمين إلى فئة رجال الأعمال الكبار إلى القفز فرحا من داخل قبة البرلمان وهو يخبر صديقه قائلا -تصور أن الآلة الحاسبة لا تملك الأصفار الكافية لتحدد الربح الذي سأحققه جراء هذا التخفيض- لهذا من المفروض أن نحلل الإجراءات السياسة والاقتصادية دائما من خلال الإجابة عن سؤال من يستفيد منها؟ ومن لا يستفيد ؟ وما هو الثمن الذي استفاد منه الرأسمال؟ وما هو الثمن الذي استفاد منه العمل؟ حتى تتوضح الصورة جيدا.
إذا كانت الوثيقة الدستورية تنظم ما يمكن أن نطلق عليه تدخل السلطات المنتخبة والممثلة للشرعية الشعبية، من خلال ما نظر له -جون جاك روسو في كتابه -العقد الاجتماعي، فان اليد الخفية هي يد السوق، التي نظر لها الاقتصادي آدم سميت. والباحث الفرنسي فرناند بروديل سيؤكد من خلال حديثه عن بنية الفوارق بين الدولة الاجتماعية والرأسمالية: نلاحظ كما لو أن سباقا للسرعة قد فتح ما بين الدولة والاقتصاد. في هذا السباق لم يعمل فقط الاقتصاد على اللحاق بالدولة، بل وعمل تحت أعيننا على تجاوزها. انتصار الاقتصاد على الدولة ليس سهلا وليس في كل الأحوال شرعيا، ولكن الاقتصاد ينجح دائما في تجاوز القواعد التي نحاول أن نخضعه لها، وفي كثير من الحالات يعمل على تغيير هذه القواعد لصالحه.
في الفقرة الأولى من كتابه -الرأسمال والأيديولوجية- سيقول الاقتصادي الفرنسي توماس بيكيتي: كل المجتمعات البشرية عليها أن توضح وتبرر سبب الفوارق بداخلها، ومن المفروض أن تحدد لماذا وجود هذه الفوارق، وإلا فإن بنيان البناء السياسي والاجتماعي يبقى مهددا بالسقوط.
الحرب المفروض إعلانها ضد المال توضح أن الاقتصاد صار هو الأفق المفتوح لسؤال المساواة، لأن صعوبة المساواة في المجال الاقتصادي أنه لا يمكن حلها بشكل قبلي من خلال توازن السلط أو من خلال هندسة دستورية جيدة كما يعتقد بعض فقهاء القانون الدستوري، لأن سؤال المساواة (الاقتصادية) المطروح بحدة على عالم الاقتصاد لا يمكن حله إلا بشكل بعدي من خلال مراقبة الفوارق في الواقع وبشكل يومي ومستمر، لأن من طبيعة الفوارق أنها تنكشف في الواقع اليومي والمعاش. ومن أجل أن تصير واقعية، على المساواة الشكلية المنصوص عليها في الدستور والقانون أن تستكمل من خلال المساواة الواقعية والفعلية في الأماكن والحظوظ، ما يتطلب تصحيحات مستمرة ومتواصلة ومتجددة.
الصراع المستمر والمتجدد بين الديناميكية الاقتصادية والديناميكية السياسية هو في الغالب لصالح الديناميكية الاقتصادية. ومن أجل إعادة سلطة الديناميكية السياسية على الديناميكية الاقتصادية من المفروض فتح معركة مستمرة من خلال عمل السلطة السياسية على تشجيع النمو الاقتصادي وخلق الثروة، ومن جهة أخرى العمل بشكل حثيث على الحد من اختلال توازن السلطة الذي يحدثه ذلك، كما يؤكد الباحث أوف كلوس، من خلال تأكيده أن إعادة تصور وبناء المساواة من المفروض أن يعتمد على المجهود الفكري والمجهود السياسي ثانيا وفي الأخير المجهود الاقتصادي .
المال يخلق ويحافظ ويعمد كذلك إلى إعادة خلق الفوارق في الثروة، ما يخلق فوارق مهمة بين المواطنين ويعمل كذلك على منح مجموعة من المواطنين (طبقات أو مجموعات) سلطة متجبرة على الآخرين. وهذه الحقيقة متجذرة في الديناميكية الاقتصادية وتساهم بالتالي في إنتاج وإعادة إنتاج وبشكل مستمر للتفاوتات وعدم التناسق والفوارق واللامساواة. وهنا نستحضر ما قاله المفكر الفرنسي توكفيل عندما تساءل كيف يمكن خلق المساواة بين العبد والسيد في ظل العلاقات الاقتصادية غير المتساوية؟.
3)حكومة الأغنياء والنيولبيرالية أو الانتقال إلى عصر عمالقة الاقتصاد في مواجهة أقزام السياسة
النيو ليبرالية هي تنزيل شكل من التدخل العمومي متوجه نحو مصالح الرأسمال والتجمعات الاحتكارية الكبرى، وهو نظام يعتمد على تأجيج التناقض بين الرأسمال والعمل، من خلال دولة متحكمة تختفي تدريجيا لصالح فتح المجال أمام أرباح الرأسمال. الباحث اغليتا ميشيل سيؤكد أنه في عصر النيولبيرالية فإن أفقا آخر يترسخ، أفق يتمكن من خلاله الفاعلون الاقتصاديون من النجاح في فرض شروطهم أكثر من السابق؛ وبالتالي فإن النيولبي
رالية بالنسبة له ما هي إلا نوع من الحكامة، ولكن حكامة لصالح أطراف أخرى (لصالح الرأسمال بدل أن كانت في السابق لصالح العمل). كما أن عصر النيولبيرالية يتم تعريفه باعتباره العصر الذي يتمكن فيه الفاعلون الاقتصاديون الخواص من فرض شروطهم ومصالحهم. كما أن النيولبيرالية بالنسبة للباحث اغليتا ميشيل هي نوع من التدخل العمومي موجه نحو مصالح الرأسمال والتكتلات الاقتصادية.
النيو ليبرالية هي كذلك النظام الذي صار فيه اقتصاد السوق المسؤول عن البحث عن الموارد من خلال الرفع من الانخراط في النظام العالمي والتصدير وخلق فرص الشغل والاستثمار. الباحث ستريك وولفجوج سيؤكد في هذا السياق أن التناقض السابق الذي كان يحدث داخل الدول ما بين الدولة الاجتماعية الوطنية والموظفين في مواجهة الشركات الخاصة، والذي كان يحدث تحت سقف ثنائية (عمالقة السياسية-وأقزام اقتصاد السوق)، سيتحول إلى تناقض ما بين الدول من أجل جلب الاستثمارات ورؤوس الأموال، ما أثبت أن الرأسمال أقوى من الجميع، وهو المرتبط أكثر بالعولمة؛ وبالتالي صارت الثنائية التي تحكم ميزان القوى الجديد هي ثنائية (عمالقة الاقتصاد-الشركات الكبرى والرأسمال الوطني والدولي – وأقزام السياسة-المؤسسات السياسية للدولة الاجتماعية).
في كتابه الأخير الذي يحمل عنوان -ملخص لتاريخ المساواة-يؤكد الباحث الاقتصادي توماس بكيتي أن التاريخ يعلمنا أن نشر المعرفة، والتداول ومقارعة الحجة بالحجة، هي الأمور الكفيلة بتمكيننا من بناء مجتمع عادل، من خلال البحث بشكل جماعي عن نظرية للملكية، نظرية للحدود، نظرية للضريبة، نظرية للتعليم، نظرية للراتب، نظرية للديمقراطية؛ وبالتالي لا يمكن إطلاقا لقلة من التكنوقراط الحسم في هذه القضايا بشكل أحادي.
4)غياب حكومات القطيعة وحكومات التغيير عن الزمن السياسي المغربي الحديث، يفتح المجال أمام تغول الاقتصاد
منذ استقلال المغرب إلى اليوم لم يعرف المغرب ذلك التناوب الفعلي الذي يعمل على إعادة العداد إلى الصفر وإعادة توجيه الشراع من جديد (بين القوى القريبة من العمل-القوى القريبة من الرأسمال)، وإذا استثنيا لحظات الزمن السياسي لحكومة عبد الله إبراهيم والزمن السياسي لحكومة عبد الرحمان السياسي، فإن الزمن السياسي المغربي بقي محكوما بثنائية (الأزمة السياسية-الانفراج السياسي)، وشعار البحث عن تحديد الاطار السياسي للتعاقد.
في التجربة الدولية اليوم هناك فعالية للدول التي تعرف ثنائية التجارب الحكومية من خلال تعاقب ثنائية الحكومة-حكومة القطيعة، أو بشكل أوضح الحكومة-الحكومة المضادة للحكومة السابقة. وهنا نتذكر ما سبق وأكد عليه السياسي الفرنسي جورج كليمنصو عندما قال: في السياسة نعمل على تعويض الأغبياء ومن بعد يحل محلنا العاجزون (وبالتالي كان يؤكد على ضرورة التغيير). ثنائية الدولة الاجتماعية واقتصاد السوق تثبت أنه من مصلحة الشعوب أن يكون هناك توازن ما بين هذا الثنائي في الصيرورة الزمنية المتوسطة للدول، ما يوضح أن استمرارية اللون السياسي الواحد (القريب من الرأسمال، وليس بالضرورة نفس الحزب المتصدر أو نفس الأغلبية السياسية )، يكون في غالب الأحيان مكلفا بالنسبة للتكافل الاجتماعي ومتانة أسس وبنيان العقد الاجتماعي.
أستاذ التاريخ الإنجليزي دافيد كاندين سيعمل على التنظير إلى المجموعات الاجتماعية الأربع، (الطبقة المسيطرة-القائدة)، (الطبقة الغنية-الطبقة المتوسطة العليا) (الطبقة الشعبية: العمال-الشعب)، (الطبقة المستبعدة-الفقراء والمساكين). من المفروض أن تركز السياسات العمومية على خلق العمل للعاطلين وتحسين ظروف الطبقة المستبعدة والطبقة الشعبية باعتبارهما الجزء الكبير من الشعب الحقيقي، ولكن نظرية الحلوى الكبيرة، هذه النظرية تعتمد على عدم التدخل في الاقتصاد من أجل الحد من الفوارق، لأن التدخل يكون له أثر كبير على حجم الحلوى. نظرية الحلوى الكبيرة جاءت في مواجهة إستراتيجية المساواة الاشتراكية التي اتهمت بأنها تلعب دورا سلبيا في نمو الثروة الوطنية وتشجع على الكسل ولا تفتح الطريق أمام الاستثمار.
المفكر الإسرائيلي يافال نواه هراري، في كتابه (قصة ملخصة عن المستقبل)، سيؤكد أنه إذا كانت النخب في القرن العشرين في غالبيتها لها مصلحة في حل مشاكل الفقراء، لأنها عسكريا وسياسيا كانت مرتبطة بالحياة (وبالتالي فإن الدولة والوطن والنخب كانوا موحدين في مواجهة الرأسمال) إلا أنه في القرن الواحد والعشرين فإن الإستراتيجية الأكثر فعالية قد تكون هي الإستراتيجية المعتمدة على ضرورة التخلص من السيارات غير النافعة، ويعني بها الطبقات الشعبية والجزء الكبير من الطبقة المتوسطة، والعمل بالتالي مع سيارات الدرجة الأولى، أي الأغنياء القادرون على الرفع من السرعة.
في التجارب الدولية يلعب التناوب بين الحكومة وحكومة القطيعة (التي تحل محل الحكومة السابقة) دورا مهما في إعادة التوازن أو على الأقل تصحيح الاختلال بين ثنائية (الرأسمال-العمل)، خصوصا من خلال التجربة الإيطالية، بخلاف التجربة الفرنسية التي تعرف هي كذلك استمرارية النهج الرئاسي (ونعني استمرارية في الاختيارات السياسية ذات اللون الواحد). ما يثبت أن ثنائية الحكومة (المتحالفة مع الرأسمال)-حكومة القطيعة (المتحالفة مع العمل)، تلعب دورا مشجعا يساعد على تفعيل حكامة الاقتصاد والسوق وتمكن من النجاح في حكامة الاقتصاد. ولكن ترسيخ الزمن السياسي المغربي لخاصية الاستمرارية من خلال ثنائية الحكومة -حكومة الاستمرارية لم يعمل بشكل جيد على تحريك المصعد الاجتماعي من تحت إلى فوق في الزمن الحكومي الموسوم بالاستمرارية، وقد يعمل على بث اليأس في المواطنين الطامحين إلى إجراءات تمس الاقتصاد، وبالتالي فإن عدم الاهتمام بالعمل وبالقوى الاجتماعية التي تقتات من العمل (الاقتصادية الإنجليزية بارباووتون ستصدم عند ملاحظاتها أن الفيل الذي يركبه زوار حديقة الحيوانات يكسب مبلغا متساويا معها، باعتبارها أستاذة في الجامعة البريطانية، ما دفعها إلى كتابة كتابها الشهير-الأسس الاجتماعية لسياسة الرواتب) يعمل كذلك على ضرب الدور التي تلعبه البرامج الحكومية في الزمن السياسي المغربي، لأنه يفقدها الدور المطلوب منها أن تلعبه في إنعاش الحياة السياسية واللحظات الانتخابية (من خلال فتح المجال أمام التناوب الفعلي والحقيقي)، ما يهدد بإغلاق باب قوس الأمل من خلال اللحظات الانتخابية.
5) الحد من سلطة المال مرتبط بشكل كبير بتكوين المجتمعات بشكل أولي في الميدان الاقتصادي والمالي وبتبني ثقافة النتائج والزمن اللحظوي
في تقريره الصادر سنة 2007، بخصوص تنفيذ القانون التنظيمي للمالية بفرنسا، لم يتردد المجلس الاقتصادي والاجتماعي الفرنسي في المطالبة بشكل علني بضرورة ربط المالية العمومية بشعبة الاقتصاد في الجامعة الفرنسية بدل ربطها بشعبة القانون العام، هذا الربط غير المنطقي في نظر المجلس الاقتصادي والاجتماعي الفرنسي كان السبب الأساسي في جعل التدبير العمومي أرضا غير مستغلة بشكل جيد في فرنسا. وحيث إن القانون التنظيمي للمالية في فرنسا هو قانون غير محايد ويعتمد على اقتصاد عام يفتح المجال أمام ديناميكية لتغيير المجال العمومي، فهو يفتح المجال لتجريب النظريات الاقتصادية، والتغيير، ويعمل على الكشف عن الاختيارات والرغبات، وتدبير المنظمات، وميكانزمات للعقاب والتشجيع، ما يرفع من فعالية القواعد الميزانياتية.
في خلاصة كتابه الذي يحمل عنوان -الرأسمال والايديولوجيا-لم يتردد الاقتصادي الفرنسي توماس بيكتي في التأكيد على ضرورة أن تنتشر المعرفة الاقتصادية في المساحة المدنية والسياسية، وخصوصا لدى الصحفي ولدى المواطن، حتى لا يقف هذا الثنائي عاجزا أمام خبرة الاقتصادي، وبالتالي يقف عاجزا عن استيعاب مفاهيم مثل، الراتب-الربح-الضريبة-المديونية -التجارة -الرأسمال، خصوصا أن هذه المفاهيم تلعب دورا رئيسيا في ترسيخ السيادة الديمقراطية.
ويؤكد توماس بيكتي كذلك على أنه ورغم صعوبة هذه المفاهيم وتعقيداتها إلا أنه ليس من الممكن تركها في يد قلة من الخبراء والتكنوقراط لكي يقرروا بحرية مصير البلد. صعوبة هذه المفاهيم تؤكد بالملموس أن الدول في أمس الحاجة إلى حوار وطني جماعي عقلاني يعتمد على الحجة والحجة المضادة، وعلى التجارب التاريخية، حتى نتمكن من البحث الصعب عن الحلول الممكنة والصائبة.
المختص في المالية الدولية والأستاذ بجامعة كولومبيا، جورج ايجوكس، سيذهب أبعد من ذلك في كتابه الذي يحمل عنوان “وال ستريب تهجم على الديمقراطية، أو كيف تطور الأسواق المالية الفوارق الاجتماعية والاقتصادية”، حيث سيؤكد على ضرورة تلقين المالية بشكل إلزامي في الإعدادي والثانوي، لأن طلبة الإعدادي والثانوي بالنسبة له يجب أن يستوعبوا بشكل جيد كيفية تدبير وقيادة مجتمعاتهم في المستقبل، وذلك لن يتم دون معرفتهم بالميدان المالي وتعقيداته. كما أن الكاتب سيوجه انتقادات لاذعة للنظام التعليمي الذي يركز على تدريس المالية في الجامعات والمعاهد الجامعية المختصة.
غياب المالية عن التكوين الإعدادي والثانوي يجعل الجامعيين لا يفقهون شيئا في المالية، ويمضون شيكات على بياض لبنوكهم لتنحرف بالثقة وتقع الأزمات، وتمنعهم كذلك من القدرة على نقاش القضايا الاقتصادية والمالية وتركها لقلة من الخبراء لتقرر في شأنها تحت طلب وتوجيه الرأسمال؛ وبالتالي فإن لغة العقل تقول إنه أمام عالم الاقتصاد على الناخبين أن يعرفوا قضايا الاقتصاد وأمام عالم المال على الناخبين أن يعرفوا خبايا عالم المال. وكما يعرف الجميع -المال يفسد- وبالتالي من المفروض أن نتعلمه حتى نجعله في خدمة الديمقراطية وليس ضدها كما هو الوضع حاليا.
يقول الاقتصادي انطوني ايكسون في كتابه “اللامساواة”: “علمتني جامعة كومبريدج في بريطانيا وجامعة كومبريدج في ماساشوستس أنه عند تحليل الظاهرة الاقتصادية أو الظاهرة السياسية علينا أن نطرح دائما السؤال الجوهري -من الرابح ومن الخاسر؟”. يقول الاقتصادي بيير هنري تفوالوت في كتابه -كيف نحكم الشعب الملك- إن الانتخابات الأولى من السهل كسبها لأنها بالنسبة له انتخابات الوعود، ولكن الانتخابات الثانية يكون من الصعب كسبها لأنها انتخابات النتائج وانتخابات الحصيلة. ولكن الشعوب اليوم تعتبر أن انتظار انتهاء الولاية الأولى من أجل تقديم الحصيلة والنتائج هو شيء مرفوض، لأن زمن الشعوب هو اليومي واللحظوي والآني.
المطالبة بنتائج السياسات العمومية من خلال فاصل زمني قصير ودون انتظار حصيلة البرنامج الحكومي عند نهاية الولاية هو في الحقيقة ضربة قاسية للبرنامج الحكومي المنصوص عليه دستوريا. كما اتضح أن الشعوب تتشبث بالتقييم والنتائج والحصيلة في الزمن القصير. وفي هذا السياق وجب التذكير أن الرئيس الفرنسي السابق شارل ديغول كان يكره البرامج، وبالتالي لم يكن يقدم برنامجا انتخابيا بمفهوم البرنامج، وكان يكره الحديث عن البرنامج الانتخابي، سواء في زمن الانتخابات الرئاسية أو في زمن الانتخابات البرلمانية. الاعتقاد الراسخ عند شارل ديغول يتمثل في أن البرنامج لا جدوى منه في الحياة السياسية، فالحياة السياسة هي الواقع، والسياسة هي الحقيقة، والحقيقة تتغير كل يوم. الحقيقة كل يوم نكتشفها، وهكذا فإن المهم بالنسبة لديغول ليس هو البرنامج القبلي، بل الأهم يكمن في وجود المبادئ والأهداف؛ فمتى تستوعب الطبقة السياسية المغربية الدرس التدبيري الحديث المعتمد على النتائج والأثر على المواطن والمرتفق ودافع الضرائب والفعل في الزمن القصير؟.
إن مقاومة مجتمع الفوارق ومجتمع سلطة المال لن يتم إلا بشكل بعدي (وليس بشكل قبلي من خلال الدستور والقانون، كما يعتقد فقهاء القانون الدستوري)، ومن خلال العمل على تصحيح نتائج البرامج السياسية والبرامج الاقتصادية من خلال الضريبة التصاعدية فالاهتمام بالطبقة المتوسطة والفئات المعوزة والعاطلين عن العمل لن يتم إلا من خلال السياسات المبدعة من خلال الابداع التكنولوجي والبحث عن التشغيل الكلي والتغطية الاجتماعية واقتسام الرأسمال والضريبة المتصاعدة (كما تخبرنا البحوث المتخصصة في محاربة الفوارق في المجتمعات).
الخلاصة:
يقول السياسي الفرنسي بنجمان كونستانت: “إذا كانت السلطة عادلة (المساواة السياسية والمساواة الاقتصادية)، فإننا نعدها أن نتكلف بأن نكون سعداء”. في هذه الخلاصة لا يمكن إلا أن نعود إلى الاستنتاجات المفيدة والمهمة التي توصل اليها الاقتصادي الفرنسي توماس بيكتي، إذ يؤكد وبعد دراسة بحثية تاريخية أنه ليست قدسية الملكية ما فتح الطريق أمام التطور الاقتصادي والإنساني، بل إن المساواة في التعليم هي الحصان الرئيسي نحو النمو الاقتصادي والإنساني؛ كما يؤكد كذلك أن أفقا مستقبليا للمساواة ممكن من خلال نظرية جديدة للمساواة في الملكية الاجتماعية والتعليم واقتسام المعارف والسلطة، كما أن أزمة كوفيد والحرب الروسية الأوكرانية تفرضان علينا إعادة اختراع نموذج تنموي فاعل، يضمن التوازن المطلوب ما بين التنمية والتضامن، والتوازن ما بين الدولة والسوق، والتوازن ما بين السيادة الوطنية والاندماج في الاقتصاد العالمي، وهو أمر ممكن.