بدا المقطع أشبه بفيلم رعب ومشاهد تعذيب سادية، حيث أظهر “فيديو الفلقة” أرجلا صغيرة مرفوعة إلى الأعلى و”المسيوطة” تهوي على الأجساد الهزيلة بعشوائية وسط كتاب قرآني في إحدى القرى النائية بإقليم شفشاون.
خلف فيديو “الفلقة” سجالا واسعا أعاد ظاهرة العنف الممارس على الطلاب والتلاميذ إلى دائرة النقاش، جراء انحراف الكتاتيب القرآنية عن وظيفتها الأساسية المتمثلة في صناعة الإنسان وتهذيب سلوكه وتلقينه أخلاق الإسلام وجعله قادرا على التعايش مع بني جنسه من البشر في أمن وسلام، باعتبارها مشتلا للقيم والأخلاق لا فضاء يمارس فيه العنف بشتى أنواعه.
تسريب غير بريء
لم يكن تسريب فيديو الفلقة ليمر مرور الكرام فقد تباينت الردود والتفاعلات بين مؤيد ورافض، إذ ذهب مؤيدو “بيداغوجية العنف” إلى اعتبار تسريب وتداول المقطع على نطاق واسع بمواقع التواصل الاجتماعي جزءا من المؤامرة التي تحاك ضد الإسلام لتنفير الآباء والأبناء من ولوج “المسيد” وحفظ كتاب الله.
وبرر أصحاب هذا الطرح موقفهم بأن “العصا خرجت من الجنة” وكذا اقتران المسيوطة بماضي غالبيتهم إبان فترة المسيد أو المدرسة معتبرين أن ما نالوه وراكموه من نجاحات كان للعصا دور فاعل فيه.
بين التحبيب والترهيب
قال محسن اليرماني، وهو باحث في سلك الدكتوراه عقيدة وفكر، إن عقوبة الضرب أهم أسلوب اعتمده محفظو القرآن الكريم لترهيب الطلبة وحثهم على الحفظ، وقد تعارف الناس في المساجد والكتاتيب القرآنية هذا الأسلوب ولم نجد من ينكره؛ بل إن الآباء وأولياء أمور الأطفال يطالبون الفقيه بالتعامل بالحزم والشدة مع أبنائهم المتهاونين في حفظ القرآن الكريم.
وأضاف اليرماني: “ولئن كان أسلوب الضرب أثبت نجاعته في تخرج أجيال من الحفاظ إلا أنه يترك آثارا سيئة في بناء شخصية المتعلم، فيتربى الكثير على الخوف والتردد والاضطرابات النفسية والسلوكية”.
ولفت الباحث في العقيدة والفكر، في حديثه مع هسبريس، إلى أن الناظر في السيرة النبوية العطرة يجد أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعتمد إطلاقا أسلوب العقاب؛ فقد كان منهجه العام في التربية والتعليم اعتماد أسلوب التحبيب والرفق واللين، يقول أنس بن مالك: “خدمت النبي صلى الله عليه وسلم عشر سنين فما قال لي أف قط، وما قال لشيء صنعته: لم صنعته، ولا لشيء تركته: لم تركته”.
وأوضح الباحث نفسه أن الغاية من تلقين القرآن الكريم باعتباره من أسمى المعارف التي يمكن أن يتلقاها الإنسان هي بناء الشخصية السوية، ولا يمكن بناء هذه الشخصية باعتماد أسلوب الضرب الذي يترك بصمته السلبية في وجدان ونفسية المتعلم.
سلوك مرفوض
قال مصطفى أسرار، أستاذ علم النفس التربوي بكلية علوم التربية بالرباط، إن الفيديو المتداول يؤكد على تجسيد تمثلات اجتماعية لدى الأبناء والأسر والتي تعتبر أن الوسيلة الوحيدة للتربية هي القمع، في حين أن هذا السلوك مرفوض، وهو ما تؤكده الدراسات الحديثة المتعلقة بعلوم التربية التي تنصح بضرورة اتباع الأساليب القائمة على بناء المناعة على الأضرار لدى الأطفال والتي لا يمكن أن تتشكل إلا بناء على الحوار.
وأوضح أسرار، في حديثه مع هسبريس، أن أساليب الحوار أثبتت نجاعتها اليوم ولا مجال لاعتماد الطريقة التقليدية القائمة على القمع والعنف، بالرغم من وجود تمثلات اجتماعية غابرة كان معمول بها سابقا، فإنه لم يعد اليوم ومع التقدم الحاصل في المجتمعات يسمح بمثل هذه السلوكيات سواء داخل فضاء الأسرة أو الوسط التربوي.
وأضاف الأستاذ المتخصص في علم النفس التربوي أن الخبراء في المجال انفتحوا على بيداغوجيات جديدة تعتبر المتعلم فاعلا داخل الوسط المدرسي، وأضحى معها دور الأستاذ ميسرا وممررا لقيم التواصل والتسامح والحوار لا مجسدا للسلطة والقمع.
وقال الأكاديمي المغربي إن الأستاذ مطالب اليوم بأن يجسد القدوة التي يمكن للطفل أن يقتدي بها ويحاكي أفعاله وتصرفاته وسلوكاته، لذا نحتاج إلى مثال ليمارس المتعلم السلوكات نفسها التي يسمح بها المجتمع، داعيا الأساتذة والآباء إلى تجسيد الأشياء التي يرغبون في الطفل أن يمارسها في حياته اليومية أو في علاقته مع زملائه لا نهره وتعنيفه.