حول المقاربة التي ينبغي نهجها في الترجمة إلى اللغة العربية، يقترح الأكاديمي والمترجم عبد السلام بنعبد العالي توليفة تجمع العمل في أقسام الدراسة ومدرجات الجامعة لتحديد “أمهات الكتب” و”صقل اللغة”، والجانب المؤسساتي الذي تشرف فيه على الترجمة هيئات أنشأتها وتنشئها دولٌ في العالم العربي.
في كلمته ضمن ندوة “الترجمة والمؤسسة” التي استقبلها، الثلاثاء، المعرض الدولي للنشر والكتاب بالرباط، سجل بنعبد العالي أن “الترجمة، شأنها شأن التأليف، تتوقف على ميولات الأفراد وذوقهم”؛ ما يتطلب “أن يوالف كل مشروع بين الجانبين المؤسسي والإبداعي في العلاقة بالنص المترجم”.
يأتي هذا في وقت أسست، في إطار أكاديمية المملكة المغربية، هيئة عليا للترجمة، انطلقت أنشطتها، ولم يعلن عن مديرها بعد.
ويرى المتدخل أن الترجمة في العالَم العربي “غالبا ما ينظر إليها كنوع من التمهيد لتيسير الاطلاع على ‘الأمهات’ أو ‘النصوص المؤسسة’، بمعنى أنها تطرح بمعزل عن المخاض الفكري فينظر إليها مثل تحقيق المخطوطات، كتهييء نصٍّ لمن يحاول الاشتغال عليه”.
هذا التصور يجعل الترجمة وفق بنعبد العالي “لحظة سابقة ممهدة لكل إعمال فكر”، تهيّئ النصّ “للباحث للاشتغال به أو عليه والاشتغال ضده أو معه”، ثم استدرك متسائلا: “لكن، ماذا إن كان نصف عملية الفكر في الترجمة ذاته؟”؛ فالترجمة “حوار بين نصوص ولغات” لا يمكن معها، بهذا التعريف “الفصل بين إعداد النص وترجمته ثم استخدامه والتفكير فيه وبه”، بل إن “ترجمة النصوص وإعادة ترجمتها من صميم الفكر”.
واستحضر بنعبد العالي مفكرين لم يفتؤوا يعيدون النظر في ترجمة النص عند إعادة قراءته، أو يعيدون ترجمته بإعادة قراءته، مثل هايدغر، كما تحدث عن “أمهات الكتب” التي قد تكون أمهات في ثقافة، مثل “الرسالة” للشافعي، لكنها ليست أمهات في أخرى، كما قد تكون نصا مؤسسا في سياق ثقافي دون أن تكون في آخر، مثل قصيدة بارمينيدس.
ومع تطرق المتدخل لجواب عدد من الدول في المنطقة عن المكلفين بالسهر على تحديد أمهات الكتب وترجمتها، بتأسيس هيئات وبيوت حكمة، أعاد النظر في مفهوم “الأمهات” أو “النصوص المؤسسة للثقافة”، وواصل متسائلا: “ما النصوص التي سنجعلها مؤسسة للفكر العربي الجديد؟”، ليضيف: “هنا سننفتح على نصوص مؤسسة للنقد الأدبي والتاريخ والنقد السياسي… وعلى تشابك الحقول المعرفية المعاصرة (…) ومجالات أخرى لم تكن تعمل قبل اليوم في الفلسفة مثل نظرية الأدب وإبستمولوجيا التاريخ والفلسفة السياسية”؛ وهكذا لا تكون الترجمة وسيلة نقل فقط، بل “أداة تحديث”.
محمد محجوب، أكاديمي تونسي، رأى أن علاقة الترجمة بالمؤسسة، أو إشراف الدولة على الترجمة “علاقة أصلية موجودة في حضارتنا”، منذ “بيت الحكمة”، الذي أشرف عليه الفيلسوف الكِندي.
وأبرز المتدخل ذاته إشكالات الترجمة “المتأتية من كونها ليست عملية حرة؛ وما دامت الدولة تكفلت بها فلها هدف”، وهكذا في تونس كان الهدف ترجمة النصوص “ذات الصبغة الحداثية” إلى العربية، وترجمة الكتب التونسية في مجالات الإبداع المختلفة إلى لغاتٍ مثل الألمانية والفرنسية والإنجليزية.
ومع تأكيده أن وجود مثل هذه المؤسسات “مسألة هامة وأساسية”، حتى لا يكون هناك “خضوع لانتظارات السوق وطلباته التي قد لا تتماشى مع التقديرات العلمية”، طرح محجوب إشكال “ما الذي تنبغي ترجمته؟” في وقت تصدر عشرات الكتب باستمرار في تخصص مثل اللسانيات، “هل حسب حضور الكتب اليوم؟ أم حسب حضورها التاريخي؟”.
لهذا، جاء جواب معهد تونس للترجمة “بترجمة الكتبِ الجردِ، أي التي تجرد تطورا طويلا لمعرفة من المعارف؛ حتى نختصر الزمن، ولِنضع لأنفسنا، ومن لا يعرفون لغاتٍ أخرى، كتبا تضم تاريخ تطور معرفة من المعارف”.
وفي وقت يُستند في اللغة العربية إلى ترجمات قديمة لنصوص يونانية مؤسسة، توجد اليوم في أوروبا عشرات الترجمات لما بعد الطبيعة لأرسطو، “في حين نعتمد ترجمة واحدة”.
واسترسل الأكاديمي قائلا: “ما الذي يدعو الجماعة العلمية إلى ترجمة كتاب سبقت ترجمته؟ إنه تغير الأفق التأويلي ومعطيات العلاقة التأويلية، وهو تغير نجد صداه في الترجمات”.
هنا، توقف المتحدث عند إشكال مستمر نتج “في تاريخنا وحضارتنا عن الانقطاع عن الترجمة، والحراك الترجمي، بعدما مرت حضارتنا بعملية مواكبة الترجمة وعملياتها وإشكالياتها، ما مكن من طرح الترجمة بشكل فلسفي متقدم جدا”.
وهكذا، نجد العربية “لم تستعد لاستقبال سياقٍ حداثي”، ونجد عند قارئينَ بها “عدم انسجام وتواؤم” ناتج “من داخل العقلية التي نستمد منها المفاهيم والسياق”.
وواصل الأكاديمي التونسي: “رغم تدريسنا الفلسفة الحديثة واجتهادنا في ذلك، إلا أنه عند الخروج للمجتمع نكاد لا نجد أثرا لها. الثقافة الاجتماعية لم تكن قادرة على أن تصطبغ بروح المفاهيم التي تنقلها، وهذا ما يفسر عدم التشجع على ترجمة الأعمال اليونانية القديمة، والغربية الحديثة”، رغم الحاجة إلى ذلك “لِنستَشكل وجودنا ومستقبلنا وتاريخنا”.