قال محمد أمين بنعبد الله، أستاذ القانون العام، إن موقف المحكمة الدستورية الصادر في 15 فبراير 2022 سلك توجها مغاير تماما، مبرزا أن طريقة تعاطي المحكمة مع الطعن لم تراع مبدأ كونيا هو الحق في التقاضي.
وأضاف الأكاديمي بنعبد الله في مقال بعنوان “عدم القبول في المادة الانتخابية”، تعليقا على قرار المحكمة الدستورية، أنه من خلال إحدى حيثيات القرار، يتبين أن المحكمة لم تأخذ بعين الاعتبار ما يمكن أن يعد شكليات ثانوية، بل اعتبرت أن كل الإجراءات التي يتعين اتباعها منذ تلقي العريضة هي شكليات جوهرية يكون الإخلال بها موجبا لبطلان العريضة واعتبارها كأنها لم تكن.
وهذا نص المقال
هل يجوز للمحكمة الدستورية أن تقضي بعدم قبول عريضة تم إيداعها داخل الأجل المنصوص عليه في القانون ولم تتوصل بها وفق المسطرة المقررة في القانون التنظيمي مع أن الطاعن استوفى جميع الشكليات المرعية ولم يهمل أيا منها؟ إن سؤالا كهذا المثير للتعجب لا يمكن أن يقبل بالتأكيد سوى إجابة بالسلب، إلا أن قرار المحكمة الدستورية الصادر بتاريخ 15 فبراير 2022 سلك توجها مغايرا تماما.
فبناء على المقتضيات التشريعية وعلى الوقائع المفصلة للنازلة، سنعمل على كشف موقف المحكمة الدستورية من خلال رصدنا لطريقة تعاطيها مع الطعن، وذلك لاستنتاج أنها لم تكثرت بمبدأ متعارف عليه كونيا هو حق التقاضي.
في التشريع والواقع
تتلخص وقائع القضية في أن الطاعن الذي رُفض ترشيحه للانتخابات التشريعية قدم بناء على المادة 34 من القانون التنظيمي المتعلق بالمحكمة الدستورية عريضة أمام المحكمة الابتدائية بالناضور يطلب فيها إلغاء نتيجة الاقتراع الذي أجري في 8 سبتمبر 2021 بالدائرة الانتخابية المحلية “الناضور” حيث رفض ترشيحه.
من الواضح أن إقرار هذه المسطرة يرمي بالأساس إلى تقريب القضاء من المتقاضين، وما دام أن العريضة تحال على أنظار المحكمة الدستورية، فإن المشرع ارتأى أن يتيح للطاعن إمكانية إيداعها لدى جهة أقرب تتولى موافاة المحكمة الدستورية بالعريضة.
في هذا الموضوع، فقد نص القانون التنظيمي المذكور على ثلاث إمكانيات تتعلق بالمنازعات في انتخاب أعضاء مجلس النواب ومجلس المستشارين. وعليه، يجب أن تودع العريضة المكتوبة داخل أجل ثلاثين يوما الموالية لتاريخ الإعلان عن نتائج الاقتراع إما لدى الأمانة العامة للمحكمة الدستورية، أو لدى والي الجهة أو عامل العمالة أو الإقليم الذي جرت فيه العمليات الانتخابية، أو لدى رئيس كتابة الضبط بالمحكمة الابتدائية التي يجرى الانتخاب بدائرتها. وحتى يضمن القانون التنظيمي إنصاف الطاعن وحماية حقوقه، كان من الطبيعي أن ينص على أن الإحالة ينبغي أن تكون مقابل وصل يحمل تاريخ إيداع الطعن ويتضمن قائمة الوثائق والمستندات المقدمة من طرف الطاعن تعزيزا لطعنه.
وبحكم أن المحكمة الدستورية هي صاحبة الاختصاص للنظر في العريضة، فإن القانون التنظيمي نص على أنه بمجرد إيداع العريضة، تُشعر الجهة التي أُودعت لديها العريضة الأمانةَ العامة للمحكمة الدستورية بذلك قبل موافاتها بها وبتاريخها، وذلك بكل وسيلة تواصل معمول بها، بما في ذلك البريد الإلكتروني.
وانطلاقا من القواعد المنظمة للعريضة في المادة الانتخابية، يمكن أن نخلص إلى أن ثمة قاعدة يتعين على الطاعن مباشرتها، هي الإيداع الذي يُفترض فيه احترام الشروط وأن يكون داخل أجل الثلاثين يوما الموالية لتاريخ الإعلان عن نتيجة الاقتراع؛ كما أنه توجد قواعد يرجع تطبيقها إلى الجهة التي تسلمت العريضة. ومن ثم، فمن المنطقي القول إن مسؤولية الطاعن تنتهي بمجرد حصوله على ما يثبت إيداع عريضته، وهو ما تم بالفعل بعد تسلم دفاع الطاعن نسخة من العريضة مؤشرا عليها بمثابة وصل؛ وهكذا فإذا وقع إهمال من طرف الجهة التي تسلمت العريضة فليس من شأنه أن يؤثر بأي شكل من الأشكال على قبول العريضة، بل إنه يشكل جزءا لا يتجزأ من الأجهزة التي تنظم حسب الحالة سير مصالح الولاية أو العمالة أو الإقليم أو كتابة ضبط المحكمة الابتدائية في علاقتها مع المحكمة الدستورية؛ وبصيغة أخرى-وهنا يكمن موضوع هذا التعليق-فإن كان ثمة إخلال ما على هذا المستوى، فينبغي أن يظل أمرا داخليا يخص المحكمة الدستورية في علاقتها بهذه الجهات التي لا تعدو أن تكون سوى حلقة الوصل لإيصال العرائض للمحكمة، ولا يملك الطاعن أي إمكانية لفرض رقابته على هذه العلاقة، أو حتى التدخل بخصوصها والاستفسار عنها؛ فلو فعل ذلك، فسيكون في حكم المتدخل في ما يتجاوزه ولا يعنيه! ولا يمكن أن نتخيل طاعنا أودع عريضته لدى والٍ أو عاملٍ أو كاتبِ ضبط ليعود إلى هذه الجهات لاحقا ليتأكد أو يراقب بنفسه إتمام المساطر والإجراءات المرعية!
نلاحظ أن كل شيء يبدو واضحا إلى حد الآن بالنسبة للطاعن الذي تقدم بموجب القانون التنظيمي إلى كتابة الضبط بالمحكمة الابتدائية بالناضور بعريضة داخل الأجل القانوني منازعا في رفض ترشحه.
فكيف كان نظر المحكمة الدستورية في المسألة يا ترى؟
في موقف المحكمة الدستورية
“وحيث إنه يبين من الاطلاع على وثائق الملف، من ناحية، أنه لم يتم إشعار الأمانة العامة للمحكمة الدستورية بإيداع عريضة الطعن بأي من وسائل التواصل المعمول بها، وأن ورقة إرسال العريضة أتت، من ناحية أخرى، موقعة من قبل محرر قضائي بالمحكمة الابتدائية بالناضور، (عن رئيس مصلحة كتابة الضبط)، وليس من قبل رئيس كتابة الضبط ذاته”؛
من خلال هذه الحيثية، عللت المحكمة موقفها مبينة خرق مقتضيات المادة 34 من القانون التنظيمي سابق الذكر، ولا يجادل أحد في أن مضمون المادة 34 يحدد بوضوح لجهة الإيداع المعنية المسطرةَ الواجب اتباعها منذ توصلها بالعريضة، علما أن هذه الجهة لا تمثل إلا محطة سابقة للإحالة أمام المحكمة. وبالتالي، فإن خرق مثل هذه المساطر والإجراءات يسبب نوعا من الإحراج عند تقييم أداء كتابة الضبط بالمحكمة الابتدائية بالناضور.
يمكن استشفاف عناصر الجواب في رسالة رئيس المحكمة الابتدائية المؤرخة في 24 يناير 2022 التي تفسر لرئيس المحكمة الدستورية أن الطاعن أودع عريضة الطعن بواسطة دفاعه إلى كتابة الضبط بالمحكمة الابتدائية بالناضور بتاريخ 11 أكتوبر 2021 وتسلم نسخة مؤشرا عليها بمثابة وصل، وتوضح الرسالة أيضا أن العريضة تمت إحالتها الى المحكمة الدستورية بتاريخ 12 أكتوبر 2021 من دون سابق إشعار، وأن موظفا مكلفا بتلقي الطعون قام بتوقيع ورقة الإرسال نيابة عن رئيس كتابة الضبط.
لا مناقشة أنه كان من الأفضل لو تم إشعار المحكمة الدستورية بمجرد تلقي العريضة وتم أيضا توقيع ورقة الإرسال من قبل رئيس كتابة الضبط نفسه، لكن في المقابل ألا يمكن القول بكل عفوية إن هذا الخلل يمكن أن يعزى لكون رئيس كتابة الضبط كان غائبا يوم إيداع العريضة؟ فلئن كان توصل الأمانة العامة للمحكمة الدستورية بالعريضة من الأهمية بمكان، فإن العبرة بالمضمون وليس بطريقة الإرسال، ثم إنه عندما يشهد رئيس المحكمة الابتدائية بالناضور كتابة بأن العريضة وضعت فعلا يوم 11 أكتوبر 2021 وسجلت تحت عدد 4218 لتحال في اليوم الموالي، أي 12 أكتوبر، إلى المحكمة الدستورية، هل يحق بعد كل هذا التشكيكُ في الأمر مع أن الشاهدَ قاضٍ معينٌ بظهير وسبق له أن أدى القسم قبل مباشرة وظيفته؟ ثم هل كان يجوز تعطيل كل شيء بداعي غياب رئيس كتابة الضبط والجلوس مكتوفي الأيدي في انتظار عودته؟ لعله كان يعاني أمرا ما حال دون حضوره ذاك اليوم؛ وعلى أي حال، ألم نكن قد ضربنا في الصميم مبدأ استمرارية المرافق العمومية المتعارف عليه كونيا؟ بل أكثر من ذلك نكون قد مسسنا بسير العملية الانتخابية مسا جسيما وفي مرحلة مفصلية.
إن ذلك ما يتبين مع الأسف من خلال إحدى حيثيات قرار المحكمة الدستورية حيث لم تأخذ بعين الاعتبار ما يمكن أن يعد شكليات ثانوية، بل اعتبرت أن كل الإجراءات التي يتعين اتباعها منذ تلقي العريضة هي شكليات جوهرية يكون الإخلال بها موجبا لبطلان العريضة واعتبارها كأنها لم تكن.
“وحيث إن المحكمة الدستورية، لا يمكنها مباشرة البت في الطعون المحالة إليها إلا على أساس عرائض تأكدت صحة شروط إيداعها واستوفي إنفاذ الإجراءات المتعلقة بها، وعلى أساس مذكرات جوابية أو تعقيبية ومستندات ووثائق مدلى بها من قبل الأطراف، حسب الحالة، أو وثائق ومستندات مستحضرة من قبل المحكمة الدستورية من الجهات المختصة قانونا، أو بإجراء تحقيق على النحو المقرر في المادة 37 من القانون التنظيمي للمحكمة الدستورية، وهو ما انتفى في النازلة”؛
وعلاوة على ذلك، لم تكتف المحكمة من خلال هذه الحيثية باتخاذ موقف مبدئي كان يكفيها لتوضيح وجهة نظرها بخصوص الشكليات الواجب التقيد بها التي لم يتم احترامها بالمناسبة، وإنما خلصت، وكأنها في لحظة غضب، إلى أن الوقائع المقدمة تزرع الشك ولا تُطمئن على صحة إجراءات إيداع العريضة. وبصيغة أخرى، فهي تنكر على الجهات المكلفة بتلقي العرائض وإحالتها إليها مصداقيتها، “وحيث إن للمحكمة، عملا بأحكام الفقرة الثانية من المادة 38 من القانون التنظيمي للمحكمة الدستورية، أن تقضي بعدم قبول العرائض دون إجراء تحقيق سابق في شأنها، متى ظهر سبب أو أكثر موجب لذلك، الأمر الذي يتعين معه التصريح بعدم قبول عريضة الطعن التي تقدم بها السيد مصطفى سلامة”؛
وكأننا بالمحكمة تعد العدة للإجهاز على أحد أهم المبادئ الأساسية، ألا وهو حق التقاضي!
في حق التقاضي
إن ما يحز في النفس في هذا المسار المتسم بإشكالية قانونية تنفرد بنوعها، هو ذلك المتقاضي الطاعن الذي رُفض ترشيحه مع أنه كان يتوفر على كامل الحق في التقاضي أمام المحكمة الدستورية للنظر في طلبه.
وعلى الرغم من الاستقلالية التي يتمتع بها القضاء الدستوري على المستويين المؤسساتي والوظيفي، فإنه يظل في المادة الانتخابية بالخصوص محكوما بالمبادئ الأساسية نفسها التي تنظم سير العدالة بكل فروعها، فلا يسوغ لنا في هذا الباب، وبأي حال من الأحوال، استبعاد تطبيق الفقرة الأولى من الفصل 18 من الدستور التي تنص على أن “حق التقاضي مضمون لكل شخص للدفاع عن حقوقه وعن مصالحه التي يحميها القانون”.
من المعلوم أن الحق في الولوج إلى العدالة، ورغم قدسيته، يبقى مشروطا بقواعد شكلية وموضوعية بحسب طبيعة المادة أو الحقل، وهذا ما وضحه بجلاء القانون التنظيمي المتعلق بالمحكمة الدستورية، فينبغي أن تودع العريضة داخل أجل محدد وأمام جهات معلومة، كما ينبغي أن تتضمن كل المعلومات بأدق تفاصيلها؛ فإذا أخل الطاعن بإحدى هذه القواعد التي يمكن إثارتها تلقائيا من قبل المحكمة الدستورية لكونها من النظام العام، فإنه يفقد حقه في التقاضي، بيد أنه لو احترم كل الالتزامات القانونية التي يفرضها النص لإيداع عريضة الطعن في المحكمة، يكون له كامل الحق في طرق باب العدالة، أما أن يُواجَه بعدم القبول بسبب إهمال إحدى القواعد واجبة الاحترام، فهذا من صميم واجب المحكمة واختصاصها ابتداء وانتهاء ما دام الطاعن لا يملك إلا أن يحترم ذلك؛ لكن، أن نزر الطاعن وزر جهة أخرى بتحميله مسؤولية الاختلال في سير المساطر في مرحلة من المراحل التي لا تعنيه قط ولا دخل له فيها، فذاك يوازي حرمانه من حقه في الولوج إلى العدالة، إن لم نقل إن الأمر على مشارف نكران العدالة.
فالتعليل الذي قدمته المحكمة الدستورية أبعد ما يكون عن الإقناع، ولئن حاولنا جاهدين الإحاطة بأغواره، فإنه يظل عصيا على الفهم والاستيعاب، وتفاديا للدوس على مبدأ الولوج إلى العدالة، ألم يكن ممكنا للمحكمة أن تشير في إحدى حيثيات قرارها إلى أنه على الرغم مما شاب تطبيق مقتضيات المادة 34 من القانون التنظيمي بعد تلقي العريضة من اختلالات، تكون العريضة مقبولة بالنظر إلى أمر مؤكد هو أن المتقاضي تقدم بعريضة الطعن وفق قواعد الولوج إلى العدالة داخل الأجل المخصص لذلك كما أكده رئيس المحكمة الابتدائية بالناضور في معرض جوابه الموجه إلى المحكمة الدستورية.
وأما عدم الاعتداد بورقة الإرسال الموقعة من قبل موظف فقط بسبب غياب رئيس كتابة الضبط، فإنه يزرع الشك ويجعل المحكمة لا تطمئن على صحة إجراءات إيداع العريضة، وكل هذا يوحي بكثير من الشكلانية عديمة الفائدة تصل حد التناقض مع مبدأ دستوري متعارف عليه كونيا هو الحق في الولوج إلى العدالة.
ولا يسعنا في الختام إلا أن نتأسف لتوجه المحكمة الدستورية هذا الذي يُغلب اعتبارات الشكل عديمة الدلالة لقبول العريضة، أو لم يكن حريا بالمحكمة الدستورية التمييز بين مرحلتين مستقلتين عن بعضهما البعض؟ الأولى هي تلك التي تخص المتقاضي الذي توصل بنسخة مؤشر عليها بعد إيداع عريضة الطعن داخل الأجل القانوني، والثانية هي التي تضطلع بها الجهة المكلفة بتلقي العريضة والتي لا شأن لها بوضعية الطاعن ما دام أن دور هذا الأخير ينتهي بتسلمه وصل الاستلام أو ما يقوم مقامه؛ وبما أن الوصل المذكور ينبغي أن يشير إلى لائحة الوثائق والمستندات التي يشفع بها الطاعن عريضته، فإن عدم القبول هنا لا يمكن أن يبرر إلا بنقصان الملف، وهذا هو القانون عينه، فإذا سلمنا بهذا، ففي النازلة موضوع التعليق، لم تكن ثمة ضرورة تدعو لتقديم كم كبير من الوثائق والمستندات، فالعريضة المقدمة في مواجهة رفض للتصريح بالترشيح لا تتطلب سوى ما يبرر إيداع التصريح وفق القانون إلى الجهة الإدارية التي تتولى تلقي العريضة وكذا وصل الإيداع المثبت لرفضها، وهذا هو ما يؤكد أن المحكمة الدستورية بلجوئها إلى بهلوانيات قانونية لا يخلو من مغامرة فيها قفز على القانون لتبرر عبثا عدم قبول عريضة طعن ما كانت لتكون غير مقبولة، تكون في نهاية المطاف قد جعلت من التل جبلا لما نتج عن ذلك من تضحية بمبدأ دستوري أساسي هو حق التقاضي!