تتميز الثقافة السائدة لدى ساكنة مدن وقرى الصحراء المغربية بغناها وتنوعها وتفردها عن باقي مناطق المغرب، مشكلة بذلك استثناء فريدا ومادة دسمة للباحثين المغاربة للغوص في طقوسها وتقاليدها وعاداتها المتجذرة منذ القدم.
وتعد الأعياد الدينية، على غرار الفطر والأضحى والمولد النبوي، واحدة من المناسبات التي تعرف العديد من هذه الطقوس السائدة لدى أهل الصحراء، خصوصا عيد الأضحى الذي يعرف في الأوساط بعدة كنايات كـ”عيد اللحم” أو “العيد الكبير”.
وتعليقا على هذا الموضوع، قال بوزيد الغلى، باحث في التراث الشعبي الحساني، إن الطقوس المصاحبة لذبح الأضحية في عيد الأضحى أضفى عليها المخيال الشعبي صفة المقدس، وترتد أصول بعضها إلى ينابيع عبرانية بعيدة الغور، في حين تتكئ بعضها على عصا النجاعة والخبرة المكتسبة من تجارب الأولين، حسب إفادة بعض كبار المسنين.
وعلى رأس هذه الطقوس، يضيف الباحث ذاته، في تصريح لهسبريس، “تلقيم الكبش قبيل النحر حفنة من الشعير الممزوج بالملح والحناء، وليس من الصعب استكناه دلالة الشعير والحناء على الترميز لاستجلاب جودة المحصول والنبل والحنان، أما الملح الذي يدر على الأضحية ويوضع بين فكيها عنوة في غالب الأحيان، فتنداح دلالته إلى أصول عبرانية قد تكون تسللت إلى ثقافة أهل صحراء المغرب من بقايا الثقافة اليهودية الهاجعة منذ القديم بمنطقة وادنون التي أسسوا بها أشهر ممالكهم”.
“وبعد النحر، يوضع دم الأضحية قبل وقوعه على الأرض في طست، وبعد تخثره وتجمده، يستخدم مخلوطا بشيء من الحمّيرة، وهو حجر أحمر يستعمل في الزينة وصبغ الخدود عند النساء قديما في علاج الطفح الجلدي والدمامل التي تعني الخراج”، يتابع بوزيد الغلى.
وزاد الباحث ذاته أن من بين الطقوس الملازمة لأهل الصحراء أيضا في عيد الأضحى، “كون الكثير منهم يعتقد أن كبش العيد إذا شخر شخيرا كثيرا سالت الأودية، فالشخير يرمز عندهم إلى خرير الماء الوفير، بينما يفيد بعضهم بأن كثرة اضطراب وتمرغ الذبيحة نذير شر؛ إذ يومئ عندهم إلى تطاير شرر حرب متوقعة”.
كما يعمد الصحراويون في تقاليدهم، وفق بوزيد الغلى، إلى “تعليق المرَّارة بعد إخراجها من جوف الذبيحة على الباب أو فوق أي شيء عال لا تصل إليه الأيدي بسهولة، وتستخدم بعد أن تيبس في علاج الأورام والطفح الذي لا يعرف مصدره، ومن الشائع عند بدو الصحراء أن مرّارات سبعة أعياد من أنجع وسائل علاج كل ورم مجهول”.
وفي مقابل ذلك، أشار الدكتور الغلى إلى أن بعض أهل الصحراء يمتنعون عن أكل قلب الذبيحة، بينما يحرم بعضهم أكل الطحال، ويعلل الممتنعون عن أكل القلب صنيعهم بالاتكاء على قصة أو حكاية مؤسسة لهذا الطوطم؛ إذ يزعمون أن بعض أسلافهم كانوا في غزوات، ونحروا وأكلوا وشربوا ثم دسوا القلب في الرماد، وأخذتهم سنة أو نوم خفيف، ثم انتبهوا على صوت انفجار القلب بعد نضجه، فإذا بالعدو قد اقترب من مضاربهم، فدافعوا عن أنفسهم حتى انكسرت شوكة المغيرين، فأقسموا ألا يأكلوا القلب أبدا، وقالوا: كيف نأكل أخانا الذي أنقذنا من الهجمة الغادرة.
وأورد الباحث نفسه أن من عادات الصحراويين، “الاكتفاء في الأضحية بأعضائها الداخلية، فهم لا يجرحون العيد، وفق التعبير المتعارف عليه، والجرْح في هذا المقام معنوي لا حسّي؛ إذ لا يلحق بالأضحية إيلاما بعد إهراق دمها، ولذلك فالجرح المقصود على سبيل الاستعارة ينصرف إلى فعل خرق العادة، واجتراح ما لم يفعله الأسلاف من المقادح”.
وتابع مستدركا: “غير أن قاعدة عدم الجرح يوم العيد، ليست مطردة ولا عامة؛ إذ نجد من الأسر من يباشر طهو لحم العيد ابتداء من اليوم الأول كي يولم لنفسه وعياله وضيوفه من الجيران، خاصة إذا كان سليل عائلة تشرئب الأعناق إليها، وتتطلع الأعين إلى مقامها ومكانتها في العشيرة، ولا يشنع من يجرح العيد على من يأبى ذلك، فالذين لا يجرحون يخشون الهلكة من شبع، ويؤثرون المحافظة على سلامة الأبدان وعدم استهلاك اللحم قبل أن يجف الدم”.
وأردف الباحث في التراث الصحراوي بأن وفرة اللحم يوم العيد، “تجعل دعوة الضيف العزيز إلى الوليمة إهانة أو غير ذات موضوع، وإنما تحمد الضيافة في معرض الحاجة إليها، ولذلك يتندر الصحراويون بإطلاق ‘شبعة العيد’ على المضايفة يوم العيد، فمن أراد إكرام الضيف، أحرى أن يلتمس يوما غير يوم العيد، وهذا لا يعني انتفاء المضايفة وتبادل الزيارات أيام العيد، فقد درج أهل الصحراء على غرار غيرهم على تنظيم عرضة العيد وإكرام وإطعام بعضهم بعضا فضلا عن التصدق. أما الادخار، فقد كان شائعا زمن الترحال بإعداد القديد المعروف في تقاليدهم بتِشْطار”.
“كما ترتبط بالعيد طقوس احتفالية، يأتي في مقدمتها ارتداء الملابس الجديدة والتطيب، فضلا عن اتخاذ النساء أبهى زينتهن المعروفة بـ’لحفول’ بالحسانية، ولا تطيب المجالس أيام العيد إلا باحتساء الشاي الصحراوي الذي يحضر وفق قواعد مرعية في المجتمع الحساني، وشروط متعارف عليها تختزلها (الجيمات الثلاثة) وهي: جمر وجماعة وجرّ، حسب العبارة الشهيرة المسكوكة” يورد بوزيد الغلى في تصريحه لهسبريس.
وأضاف: “ولعل من أهم شروط مجلس الشاي تجانس أهله وتقارب أعمار أفراده، خاصة خلال أيام العيد التي يكثر فيها تناول الشاي من أجل التخفيف من أثر الشحوم على الجسم، حسب الاعتقاد السائد، فغالبا ما يرفق تناول أفشاي، وهو كبد الأضحية أو قلبها ورئتها الملفوفة في الشحم، بشرب الشاي”.
وختم الغلى حديثه لهسبريس بالقول إن “العيد دفقة فرح تغشى قلب المهموم المغموم، ونفحة من نفحات التضحية والطاعة والتقرب إلى الله على القصد الشرعي الأول، بيد أن طقوسه ودلالاتها تضرب عميقا في أرض وعرةٍ مسالكُها تغري الدارسين من مختلف المشارب باستغوار بواطنها ومضمراتها”.