حسرة، وقلق، ومرارة واقع، ترافق قارئ يوميات الشاعر والصحافي المغربي محمد بلمو في فلسطين المحتلة، رغم أمل يلوح ويتوارى.
عن منشورات مؤسسة مقاربات للنشر والصناعات الثقافية، صدرت هذه اليوميات حديثا بعنوان “5 أيام في فلسطين المحتلة”، وتحكي ما عاشه بلمو في زيارته إلى عدد من المدن الفلسطينية قبل عقدين، دون أن يستشف القارئ اختلافا في واقع الحال بعد ما يزيد عن عشرين سنة من الرحلة.
وكانت هذه الرحلة الثانية للصحافيين المغاربة التي نظمتها السلطة الفلسطينية ومكتب مطارات المغرب، بعد إتمام بناء مطار غزة الدولي وافتتاحه، في محاولة لـ”كسر الحصار الإسرائيلي على المطار الذي يشكل عنوانا بارزا لدولة فلسطين المأمولة، ونقطة انفتاح المشروع الفلسطيني الميدانية الوحيدة على العالم، في ظل محاولة الاحتلال سد كل الأبواب والنوافذ أمام تنفس الكيان الفلسطيني الجديد للهواء الدولي”.
وكتب بلمو: “وحدي غريب الهوية… كنت وحدي في الغرفة، أحسست بالاختناق، رغم أن المكان فسيح ومغر… نهضت نحو الشرفة، أزحت ستائرها وانسللت إليها لأستنشق هواء القدس العربية… تمعنت في المشهد، لا وجود لقبة الصخرة ولا للكنائس القديمة، ولا لسور مدينة الصلاة. فالشرفة تطل على منطقة استوطنها الإسرائيليون، وشيدوا فيها أحياء عصرية تخترقها شوارع واسعة مضاءة… كنت وحدي في غربة الشرفة”.
وبعد تدوين تأملات وملاحظات، وبعد بوح بأسئلة تركت مفتوحة، كتب صاحب اليوميات: “كان صمت البياض في وجه أسئلتي فادحا، فالقدس لا يمكن إلا أن تشعل في زائرها حرائق الأسئلة”.
وفي بداية اليوميات يجد القارئ الكاتبَ ناظرا من نافذة الطائرة إلى صحراء سيناء وأراضي قطاع غزة، وذاكرته “تستعيد أخبار الحروب وعمليات التهجير والمجازر والاستيطان، قبل أن تهدأ عاصفتها على إيقاع صور الانتفاضة المغتالة”.
وتابع بلمو متحدثا عن الإحساس بالاحتلال الذي وجده “واقعا ملموسا” في معبر رفح، حيث عاين معاناة الفلسطينيين لساعات طوال من أجل السماح لهم بالمرور.
وحكى عن يهوديين مغربيين وجدهما صدفة بالأرض المحتلة، رافقه أولهما في الطائرة، قبل أن يجده مستنطَقا في خروج ودخول مع موظفين متعددين، لأنه “اختار المجيء عبر مطار غزة وليس عبر مطار بن غريون.
لذلك لم يغفر له إخوته في الدين هذه الزلة، حتى وإن كانت غير مقصودة، فدولة الاحتلال لا تريد لمطار غزة الدولي أن يشتغل، فهو مظهر من مظاهر السيادة الفلسطينية؛ لذلك تواجِه نشاطه بالعراقيل وتستقبل زبناءه في معبر رفح بامتعاض يجعلهم يقررون عدم العودة إليه مرة أخرى”.
أما ثانيهما فوجده بـ”معبر إيريز” الذي يسميه أصحاب الأرض “معبر بيت حانون”، حيث خط صاحب اليوميات: “ما إن وقفنا قبالة الجنود الثلاثة حتى بادر أحدهم بتحيتنا بلهجة مغربية خالصة قائلا: تبارك الله عليكم! كان ذلك مفاجئا لنا، لكننا فهمنا بسرعة أنه يهودي مغربي، فأجبناه في نفس الوقت: الله يبارك فيك، ثم سأله تافنوت: الأخ مغربي؟ من أي منطقة؟ نظر إلينا ثم إلى الجندي الأشقر الذي كان يتابع الموقف، دون أن يعرف فحوى الحديث الذي انطلق بدون مقدمات… صمت قليلا كمن أحس بأنه تسرع في حديثه معنا، ثم قال بلهجة تنم عن رغبته في التخلص من هذه الورطة ورفع الحرج عنه أمام زميله الذي كان يتابع المشهد بارتياب: أنا مغربي… من الشلوح”.
وتابع الكاتب: “من الأطلس المتوسط؟ سألتُه، لكنه لم يرد، كما لو أنه لم يسمع السؤال، والحقيقة أنه كبت تلقائيته الأولى كمن أدرك أن موقعه الجديد كإسرائيلي وجندي في جيش العدو لا يسمحان له بالتمادي في الحديث مع إخوانه المغاربة، أو مع أشباح ماضيه على الأصح، حيث تتراجع الطفولة إلى أعمق نقطة في الذاكرة وهي تئن تحت الطبقات الثقيلة للهوية الجديدة”.
ويتذكر الكاتب اندهاشه بكبر غزة، والنجاح في محاولة إعمار “الأراضي المحررة”، ويورد جواب شاب تجاذب أطراف الحديث معه بالقطاع حول واقعه: “أفضل مما كنا عليه في عهد الاحتلال، لكنه بالتأكيد أسوأ مما كنا نتوقعه ونحلم به”.
وبعد المرور من “بيت حانون”، تحدث الكاتب عن اختلاف المشهد؛ “كأننا انتقلنا من دولة فقيرة إلى دولة غنية”، حيث “لا شيء هنا يشبه ما تركناه في قطاع غزة، الحافلة من النوع الممتاز، أفضل بكثير من الحافلة الغزاوية. الطريق سيار واسع من الطراز الأمريكي، وعلى الجانبين حقول خضراء شاسعة”.
لكن، في هذا الجانب وجد بلمو الفصل العنصري الصارخ بين عيش المستوطنات الباذخ، والقرى الفلسطينية المعزولة المهملة، التي لا يتوفر بعضها حتى على طريق صغير مُعَبد يصلها بالعالم.
ووجد الكاتب في فلسطين “لعبة الزمن التي تلعبها دولة الاحتلال، والعنصرية الواضحة”؛ “بإمكان أي يهودي في العالم أن يحصل على الهوية المقدسية حتى قبل أن تطأ قدماه المدينة لأول مرة. بالمقابل يعتبر سكانها الفلسطينيون، المقدسيون أبا عن جد، مجرد مقيمين يفقدون بطاقة الإقامة لأتفه الأسباب، أما إذا ذهب أحدهم خارج المدينة، فإن السماح له بالعودة سيكون مستحيلا، وهو نفس ما يعاني منه فلسطينيو الضفة الغربية وقطاع غزة الذين يحرمهم الاحتلال من دخول المدينة المقدسة”.
كما سجل أن “كل يهودي تزوج من أجنبية، يمكنه أن يعيش ما شاء من السنوات ببلاد زوجته، دون أن يفقد هويته وجميع حقوقه في المدينة. نفس الأمر بالنسبة لليهودية المتزوجة من أجنبي، بينما لا يمكن لفلسطينية مقدسية أن تتزوج من فلسطيني من رام الله في الضفة الغربية، لأنها إن فعلت فستفقد حق الإقامة في القدس”.
وعبر توالي صفحات اليوميات، دون بلمو ما عرفه حول سياسات الاحتلال، من ذلك ما كتبه حول مدينة عسقلان التي “يسميها المحتلون اشكلون”؛ “عملية تزوير للتاريخ (…) تحوير أسماء المدن والجغرافيا الفلسطينية من جبال ووديان وعمران لتصبح أسماء يهودية”.
وواصل: “أما يافا التي تعتبر من أقدم مدن العالم، فقد عالج الاحتلال موضوعها بطريقة خطيرة جدا؛ إذ أحاطها بمدينتين استيطانيتين، هما تل أبيب من الشمال وباتيام من الجنوب (…) تتوسعان في اتجاه يافا، وتضغطان عليها (…) والنتيجة أن الكثير من سكانها اضطروا إلى النزوح سنة 1948 (…) كانت مدينة مزدهرة يزيد سكانها عن 146 ألف نسمة. لم تتبق منها بعد عمليات التهجير المتواصلة سوى 30 ألف نسمة (…) شجعت سلطات الاحتلال مستوطنيها للإقامة (…) فأصبحت مختلطة. بينما عمل المحتلون، في إطار سرقتهم للتاريخ الفلسطيني، على ترميم بعض أحيائها المهجورة، وتحويلها إلى مناطق سياحية، أو على الأصح مناطق لجلب السياح الأجانب، وشحنهم بالدعاية الصهيونية حول أحقيتهم بهذه الأرض التي سرقوها من أصحابها الشرعيين، واقترفوا بحق تاريخها عملية تزوير لم تعرف البشرية مثيلا لها”.
كما تذكر ما سمعه حول “الحياة التعيسة والمأساوية لأصحاب الأرض في مخيم احتضن ثلاثة أجيال، وبين الحياة الباذخة العصرية للمستوطنين في مستوطنات لا تبعد عن المخيمات إلا بكيلومترات قليلة”، ثم قال: “لم أتخيل وأنا أسمع بهذه المستوطنات من قبل، بأن الأمر يتعلق بمدن كاملة، تتوسع باستمرار وبوتيرة عالية. تشق لها الطرق الضخمة وسط الأراضي الزراعية الفلسطينية، لتربطها بباقي المستوطنات ومدن الاحتلال، يسميها الفلسطينيون الطرق الالتفافية، في طريقنا إلى بيت لحم، شاهدنا عن بعد ثماني مستوطنات مبنية على الطراز الأوروبي”.
أما في زيارة “باب المغاربة”، فقد استعاد بلمو ما وجده من ساحة “مزدحمة باليهود، يمارسون طقوسهم أمام حائط المبكى؛ وهو في الأصل والتاريخ حائط البراق، أحد أسوار المسجد الأقصى”، ثم استشهد بمعطيات دليله: “هذه الساحة جزء من حي المغاربة الذي دمره الاحتلال ليحوله إلى مكان لممارسة هذه الطقوس اليهودية، هنا كان يسكن العديد من المغاربة. كانوا يأتون إلى الحج، وحين يستشعرون الخطر المحدق بالمدينة، يقررون الإقامة هنا بجانب المسجد الأقصى للدفاع عن المدينة المقدسة”.
ووجدت اليوميات في أزقة القدس القديمة شيئا من “فاس، من دمشق، من بغداد…”؛ لأنه “في هذه الفضاءات الحزينة ملامح لكل المدن القديمة”، لكن بلمو لم يلمح الحزن فقط بل امتلأت أنفاسه بـ”رائحة مستفزة كلما صادفنا جنودا غرباء محتلين. رائحة الخطر الذي يحدق بالقدس، يخترق أسوارها وأزقتها وبيوتها… نفس رائحة الامتحان أو التحدي الذي يقف شاهقا في وجه كل العواصم العربية، الغارقة في تلغيم حدودها القطرية، وجدولة ديونها الخارجية، وفرملة أحلام شعوبها”.
وأمام آراء فلسطينيين حول “اتفاقيات السلام” و”السلطة” و”الشعارات حد الابتذال”، كتب بلمو: “(…) أما أنا فلم يكن موقعي يسمح لي بلعب دور الواعظ أو الحكيم، فأهل فلسطين أدرى بشعابها”.
وبشكل أكبر، تحضر الصدمة المدونة في مرحلة حديث محمد بلمو عن القدس، حيث كتب: “قضينا الليلة الثانية من زيارتنا في فندق حياة بمدينة القدس… لا شيء في هذا الفندق يحيل إلى هوية الأرض التي بني عليها. اللغة العربية لا أثر لها في مطبوعاته ولوحاته (…) تحاول أن تعطي للزائر الأجنبي انطباعا مشوها عن الواقع والتاريخ أيضا”.
وأضاف: “في إحدى المطبوعات السياحية لدولة الاحتلال، كُتِب تحت صورة المسجد الأقصى: من بقايا العهد العربي. كأنما عروبة القدس أصبحت في عداد الماضي”، ثم يأتي الوعي الشقي “لكن الأمر لا يتعلق بمجرد كلام. فإذا كان كلام العرب والمسلمين عن تحرير القدس مجرد صراخ ليس له صدى في الواقع، فإن المحتلين لا يكتفون بالشعارات، بل يمارسون سياستهم العنصرية على الأرض، وينفذون مخططاتهم التوسعية دون اكتراث للعالم بأسره”.