بعنوان “خمائل في أرخبيل”، صدرت للشاعر علال الحجام دراسة أدبية حول الأعمال غير الشعرية، النقدية والنظرية، لأدونيس.
عن منشورات “سليكي أخوين”، صدر هذا المؤلف الجديد بعنوان “خمائل في أرخبيل: قراءة في خطاب الميتالغة عند أدونيس”.
ووفق ورقة تقدم الكتاب، فإن همّه هو “أن يوضّح أن الدارس لم يكتب النقد الأدبي، ولا نظرية الشعر فقط، بل كتب أيضا التاريخ الأدبي وتاريخ الأفكار ونقد النقد والشعرية، مما حتّم إدراج هذه الأجناس كلها ضمن ممارسة واحدة أعمّ هي (الممارسة الميتالغوية) التي تستوعب هذا الاختلاف والتعددية، متميزةً بزئبقية اللغة وانزياحها، والتمرد على تحكمية المنهج، وغياب الشاهد والإحالة المرجعية”.
وبعد تحديد سمات هذا الخطاب، تقول الورقة: “بات من الضروري الانتقال إلى مناقشة موضوعه، وهو بنية الشعر؛ إذ ركز أدونيس أولا على نقد الشفوية الجاهلية التي جعلت من الوزن والقافية شرطا نمطيا على اللاحقين الالتزام به، تحقيقا لخاصية الإنشاد. وبما أن الشعر قد انفلتَ من طوْق الشّفوية وطرَقَ باب الكتابة، فقد بات من الضروري البحث عن إيقاعات محتملة تثري موسيقى الشعر، وتفتح لها آفاقا لا تخومَ لها، علماً بأنّه لا احترام الأوزان ولا خرقها يستطيعان أن يبدعا شعرا ما لم تتوفّر الطاقة الإبداعية الخلاقة”.
ومع اتضاح أن “اللغة الشعرية، مثل اللغة الطقوسية، تقترب من لغات العرافة والسحر والدين التي لم تنفصلْ عن بعضها”، يفهم “إلحاح أدونيس على ارتباط الصورة الشعرية بالتخييل وعودة الشاعر بما يملكه من رؤيا نافذة إلى طفولته الأولى، مبتعثاً طاقاته الأسطورية الكامنة، مشاكلاً مغامرة الرّائي والسّاحر والكاهن في البحث عن المجهول”.
وربطت الدراسة “هذه البنية الدالة ببنيات أكثر اتساعا أفرزتْها وساهمتْ في بلورة مكوّناتها، وذلك بغيةَ انفتاح الخطاب الميتالغوي على شروطٍ أخرى غير نصّية رغبة في استجلاء رؤيته للعالم”.
وانصبّ الاهتمام على “كشف ملامح الرؤية التحوّلية للعالم، فتطلّب منها هذا المسعى تحديد الحداثة لديه، واستجلاء روحها التي تتأسس على استراتيجية هدم قيم الثبات وبناء قيم التحول على أنقاضها، ضمن جدل مستمر تقودُه حركة حلزونية معقدة في اتجاه اللامتناهي، وتطبعُه سماتٌ ثلاث هي: النفي، والتساؤل، وصيرورة الزمن، والثنائية”.
وينظر أدونيس إلى الحداثة من زاويتين: “إحداهما نظرية عامة تجعلها طاقة إنسانية خلاقة وأسئلة بادئة. والثانية شعرية خاصة، تقتضي ألا يكف الإبداع عن المساءلة وإعادة النظر وفقا لجدل الهدم والبناء خطابا وتعبيرا”.
هكذا “تكون الحداثة عند أدونيس مواقف شمولية ثلاثة: موقف من التراث يخالف أغلب النظرات التي قاربته، وذلك على أساس نقدي محض. وموقف من الغرب، كان في البداية انبهارا تسبب في الذوبان في الغرب، غير أنه ما فتئ يتحول إلى موقف صلب يتبنى نقدا مزدوجا يقوم على جدل الاتصال والانفصال مدركا أنّ الشرق والغرب ضائعان معا، يبحث أولهما عن الطبيعة، فيما يبحث الثاني عن الإنسان. وأخيرا موقف من التجريب: وينظر أدونيس من هذه الزاوية إلى الإبداع كتوثب إلى الأمام، وتطلع للمستقبل، انسجاما مع العناصر الديونيزوسية التي تنهض على الحدس والحلم والنشوة العارمة”.
وانتهت الدراسة إلى أن “تجريبية أدونيس تعتمد أولا على الرؤيا، باعتبارها بوابة للكشف عن مجاهيل العالم، وأعماق النفس، في أفق الارتقاء بالمبدع إلى مرتبة النبي والمجنون. كما تعتمد ثانيا على الحرية باعتبارها عمادا لكل تجريبية. ورغبة في قطع الطريق أمام المدعين والمتحذلقين الذين يركبون الحداثة مطية دون أن يمتلكوا عنانها، ودرءا لتحول التجريبية إلى وسيلة تدمر الخلق ذاته، فإن أدونيس يشرطها بضرورة التخلص من خمس سلبيات مؤهلة للانحراف بها عما يجب أن تؤسّسه، يدعوها أوهاما للحداثة هي: وهم الزمنية، ووهم المغايرة، ووهم المماثلة، ووهم التشكيل النثري، ووهم الاستحداث المضموني”.
وذكر المصدر ذاته أنه كان لا بد من الاستدلال على شمولية الرؤية التحولية، والتأكد من عدم اقتصارها على تصور الإبداع فقط؛ بل شملت النظرة إلى ثالوث: “الله والإنسان والعالم”، التي خضعت كلّها لجدل الهدم والبناء، ثم انتقلت إلى إدماج الرؤية التحولية ضمن بنية أوسع هي بنية المجانية التموزية التي كرستها جماعة “شعر” الثقافية بهدف فهمها وتفسير ما قبلها. ثم أدمجتْ هذه البنية الأخيرة في بنية أخرى أكثر اتساعا هي بنية الإحباط التي تمخّضت عن المرجعية السوسيو تاريخية التي سمحت بفهمها وتفسير ما قبلها هي أيضا، قبل أن تنتهي إلى بنية الأسطورة التي أفرزتها المرجعية السيرذاتية لاختبار المعطيات المحصّل عليها.
واهتم الدارس خاصة بـ”دينامية الرؤية للعالم المعبّر عنها، ومدى تحقيقها للتماثل مع الجماعة الثقافية والواقع وسيرة الشاعر أدونيس في نفس الآن”، وخلص إلى أن وجود “تماثل بين رؤية أدونيس التحولية، ورؤية جماعة “شعر” التموزية، إذ لم تكن مظاهر تحولية مثل النفي والتساؤل والزمن والثنائية سوى الوجه الآخر لصيرورة الموت والانبعاث التموزية”.
وأضاف: “هذا فضلا عن التماثل البارز بين البنية الذهنية عند كل من أدونيس ومجلة شعر، وبنية الواقع المادي التاريخي، وقد نجمت عنه بنية الإحباط التي أفرزتها فترة ما بعد التحرّر الوطني وما نتج عنها من خيبة أمل لدى الإنتلجنسيا العربية. وفضلا عن ذلك، تأكّد التطابق أيضا بين الرؤية التموزية في شعر أدونيس والرؤية التحولية في كتابته الميتالغوية، وكان من نتائجه انعكاس أولاهما على الثانية لغة وقناعات، وتوظيف الخطاب الميتالغوي دفاعا عن الخطاب الشعري”.
يوضح هذا، وفق المرجع ذاته، “ثراء أرخبيل أدونيس الذي سمح لخمائله المتعددة الجميلة بالاستمرار في الامتداد أفقيا وعموديا. وإن كانت الدراسة لا تدعي القدرة على مواكبة امتداداتها، فهي واعية بكونها قدّمت توصيفا عميقا لنواتها الصّلبة أفصح عن تكوّن طبيعتها منذ شباب أدونيس الشاعر والمفكر المثير للجدل الذي يؤكّد في كل محطة أنه المختلف المتعدد الذي لا يملّ التحليق عاليا في سماء التجدد تماما مثل طائر الفينيق الذي تمثّله وحلقَ معه جنبا إلى جنب، وآلى على نفسه إلا أن يغذّي رماده باستمرار بحثا عن الحقيقة حفاظا على جذوة الإبداع العميق والفكر الخلاق”.