يرى مايكل أوهانلون، مدير أبحاث السياسة الخارجية بمؤسسة بروكنجز الأمريكية، أنه مع دخول الحرب في أوكرانيا شهرها الخامس، دخل القتال مسارا بطيء الحركة. والمأساة هي أنه ليست هناك نهاية تلوح في الأفق. فمازالت أوكرانيا تأمل في استعادة الـ20% من أراضيها التي سيطرت عليها روسيا، بما في ذلك الأراضي التي ضمتها موسكو عام 2014. ورغم أن هذا أمر مفهوم، فإنه غير متوقع عسكريا، ومن المرجح أن يكون مدعاة لشهور أو سنوات كثيرة من القتال.
واعترف بذلك بعض المسؤولين الغربيين، لكن السياسة الأمريكية ما زالت ترى أنه يتعين تمكين أوكرانيا في ظل رئيسها المثير للإعجاب، فولوديمير زيلينيسكي، وتزويدها بالموارد للقتال طوال المدة التي ترغبها. وذلك الموقف قد يكون سليما أخلاقيا، لكنه محل شكوك استراتيجيا.
ويقول أوهانلون في تحليل نشرته مجلة “ناشونال انتريست” الأمريكية إنه يتعين استمرار تدفق الأسلحة للقوات الأوكرانية الشجاعة، وينبغي ألا يسعى الأمريكيون لفرض سلام لا تستطيع أوكرانيا قبوله. ولكن لا ينبغي اعتبار المزيد من تزويد القوات الأوكرانية بأنظمة المدفعية المتقدمة هو الرصاصة الفضية التي يأملها الكثيرون.
وصحيح أن ما يسمى بصواريخ “هيمراس” دقيقة للغاية وأصابت بالفعل مستودعات ذخيرة ومراكز قيادة في الأراضي التي تسيطر عليها روسيا. ومع ذلك، فإن القوات الروسية تعرف كيفية تشويش الاتصالات، وإسقاط الطائرات المسيرة، وبذلك تعرقل قدرة أوكرانيا على القيام بعمليات استطلاع لأرض المعركة. ومن المرجح أن روسيا سوف تقوم بتوزيع مستودعات الإمداد في مناطق متفرقة، وتمويه الأسلحة بصورة أفضل مع مرور الأسابيع والشهور.
وحقيقي أن صواريخ “هيمراس” سوف تساعد، وهناك حاجة للمزيد منها. ولكن فكرة أنها تستطيع، مع نوعين جديدين من آليات التكنولوجيا، تغيير الدفة بصورة حاسمة لصالح أوكرانيا تبدو أنها مجرد أماني. وهناك حاجة لاستراتيجية تكميلية تأخذ في الاعتبار احتمال أن يكون هناك طحن مطول على أرض المعركة.
ويرى أوهانلون أن هناك أوجه شبه غريبة بين مسار الحرب الروسية الأوكرانية والحرب الكبرى التي اندلعت منذ قرن. وقد بدأت تلك الحرب في مطلع غشت عام 1914 مع قرار ألمانيا المرور عبر بلجيكا المحايدة، والوصول إلى باريس من شمال فرنسا في حركة اجتياح كبيرة من شأنها “الإبقاء على قوة الجناح الأيمن (الغربي)”، وقامت بقطع الطريق أمام القوات الفرنسية التي كانت مرابطة في أقصى الشرق في فرنسا، واستولت على العاصمة.
ووفقا لخطة شلين الألمانية، حدث كل ذلك في 45 يوما حتى تستطيع ألمانيا نقل معظم القوات التي اجتاحت فرنسا على متن قطارات متجهة إلى الشرق، واستغلالها لتعزيز جناح النمسا-المجر في قتاله مع روسيا.
ونجحت الخطة تقريبا؛ لكن القوات الألمانية تباطأت أثناء تحركها جنوبا، واستعاد القادة الفرنسيون والبريطانيون حيويتهم وأعادوا تموضع قواتهم شمال باريس على طول مجرى نهر رئيسي، وفي مطلع شتنبر حدثت معجزة أعاقت التقدم الألماني. وقضى الطرفان في الحرب فصل الخريف في تدعيم مواقعهما، وحفر خطوط الخنادق، والقيام بمختلف العمليات التكتيكية في بلجيكا.
وبحلول أواخر الخريف تباطأت محاولاتهما للتقدم، وأصبحت هناك مواجهة لتحصينات راسخة في شبكة حواجز دفاعية، امتدت مسافة 500 ميل تقريبا، من بحر الشمال إلى جبال الألب السويسرية.
كانت تلك حالة الحرب بعد أربعة شهور من بدايتها، وهو وضع يشبه ما نشهده الآن بالنسبة للحرب الروسية الأوكرانية فيما يتعلق بالتوقيت.
ويضيف أوهانلون أنه بالنظر إلى تركيز الحرب بطيئة الحركة الدائرة اليوم في شرق أوكرانيا، قد يعتقد المرء أن الطرفين سوف يدركان أنهما ينطحان الحائط برأسيهما. ومن المؤكد أن المرء يأمل أن من بدأ الحرب يصل إلى النتيجة المرجوة. لكن للأسف يشير التاريخ إلى غير ذلك.
فحتى بعد عام 1914 المروع، وفي ظل عدم الدقة الواضح للتكهنات السابقة بأن القوات سوف تعود إلى أوطانها “قبل الخريف”، كثف القادة من جهودهم. وكانوا يبحثون عن سبل بسيطة نسبيا قد يؤدي فيها “تكتيك ما جديد”، أو نوع جديد من الأسلحة، أو هجوم سريع حيث لا يتوقع العدو أي عدوان ويقلل من حذره، إلى تغيير دفة القتال.
ويبدو أن هذا التصور هو ما يحفز موسكو وكييف في الوقت الحالي؛ فأوكرانيا تأمل أن يرسل الناتو الكثير من المدفعية طويلة المدى، وتأمل روسيا أن تحقق مجموعة جديدة من المجندين ميزة كبيرة لها بالنسبة لأعداد المقاتلين.
لكن كل تلك الجهود باءت بالفشل في عام 1915، وحتى عام 1917. وبالفعل كانت هناك محاولات كبيرة بالنسبة للابتكار العسكري، ولكن ساعد ذلك الدفاع الذي كان قويا بالفعل أكثر مما ساعد الهجوم.
وللأسف، فإنه يبدو أن كييف وموسكو تعتقدان أن الأمور سوف تكون في صالحهما في نهاية المطاف. ولكن التاريخ يشير إلى أن هناك احتمالا كبيرا للغاية بأن الطرفين سيكونان على خطأ إذا كانا يتوقعان أن يؤدي تغيير ماهر في الأساليب، أو “مساعدة من السماء”، إلى دفع الحرب نحو اتجاه حاسم في أي وقت قريب.
ومن المحتمل أن تكون هناك حاجة أيضا إلى نوع من التفكير الدبلوماسي الخلاق، بما في ذلك قبول مفاهيم مرنة للسيادة في بعض المناطق الرئيسية، أو إمكانية إجراء استفتاءات في يوم ما لتحديد المِلكية في المستقبل. ويخشى أوهانلون إمكانية أن تستمر الحرب لسنوات لو لم يتم اللجوء، في المستقبل، إلى ما سبق ذكره من “تفكير دبلوماسي خلاق وخلافه”.