جزء من ذاكرة الاعتقال السياسي بالمغرب رحل برحيل اليوسفي قدور، “جلاد درب مولاي الشريف” وأحد مهندسي التعذيب في مغرب “سنوات الرصاص”، الذي لا تخلو من اسمِه عددٌ من مذكرات معتقلين سابقين ثم بيانات أسرهم والمنافحين عن الحاجة إلى صيانة الذاكرة لضمان “عدم التكرار”.
ومع هذا الرحيل، تحضر ذكرى مطالب بالاعتذار للضحايا والشعب، من أجل بدء صفحة مصالحة جديدة، بعد طي صفحة الماضي بالاعتراف بفظائعه، وبضمانات عدم تكرارها، التي صدرت من أجلها توصيات “هيئة الإنصاف والمصالحة”، التي وصفتها هيئات حقوقية مغربية ودولية، في سنتها الـ15، عام 2021، بكونها “ملفا حاضرا وليس ماضيا” أو بكونها “وعدا ضائعا”.
وقد كان قدور اليوسفي في قلب زوبعة، منتصف التسعينيات، بعدما تعرف عليه ضحايا سابقون، مثل المسؤول الأممي المغربي جمال بنعمر، وهو مشارك ضمن وفد رسمي مغربي خلال مؤتمر دولي ضد التعذيب.
بين المسؤولية الشخصية والجماعية
فؤاد عبد المومني، الذي كانَ ووالدَه الراحل إسماعيل عبد المومني قبله ضحيتين للتعذيب بدرب مولاي الشريف بالدار البيضاء، كتب: “رغم كل شيء، لا أشعر بأية رغبة في الانتقام من قدور اليوسفي وأمثاله الذين حرمونا بشكل تعسفي من الحرية والسلامة الجسدية وحُرمة أجسادنا، والحد الأدنى من حقوقنا كمحتجزين، وحقنا في محاكمة عادلة، وحتى حق بعضنا في الحياة، ومن حُلمنا في العيش كمواطنين وفي المشاركة المواطِنة في أمور بلدنا، وحرمان مواطنينا من حقهم في العيش في مجتمع حر تعددي ومتحرر ومنفتح يتمتعون فيه بحرياتهم الأساسية في الفكر والتعبير والتنظيم والتظاهر والمشاركة”.
ثم تابع شارحا: “أنا لا أنادي بإلغاء المسؤولية الشخصية عن مرتكبي هذه الأعمال الدنيئة لكونهم كانوا في خدمة النظام الحاكم، بعد الجرائم التي ارتكبت؛ ولكنني شخصيا مهتم أساسا بضرورة مساءلتهم ومعاقبتهم إن اقتضى الحال، لأنها خطوة ضرورية للقطع مع نظام الجلادين والمافيا الذي يتأسس على ضمان إفلات مساعديه من العقاب”.
وواصل عبد المومني: “ما زلت أعتقد أنه يتعين على المغرب أن يحذو حذو جنوب إفريقيا في إعفاء المجرمين الذين أساؤوا استخدام سلطتهم للتعذيب والقتل، شريطة أن يعترفوا علانية بالجرائم التي شاركوا في ارتكابها أو كانوا شهودا عليها، وأن يعتذروا للضحايا وللشعب المغربي، وأن يعيدوا الممتلكات والثروات التي تمكنوا من الحصول عليها من ممارساتهم الإجرامية، وألا تُسند إليهم أية مسؤولية إدارية أو سياسية في المستقبل، وأن يُجردوا من حقوق المواطنة”.
“لا يمكن طي الصفحة دون قراءتها”
مصطفى المانوزي، رئيس سابق للمنتدى المغربي من أجل الحقيقة والإنصاف ورئيس المركز المغربي للديمقراطية والأمن، قال إن قدور اليوسفي “أحد الجلادين المعروفين” و”لم يمر فقط بدرب مولاي الشريف، بل كان من مهندسي الفرقة الوطنية للضابطة القضائية، وكانت ارتباطاته بالمخابرات معروفة، واشتغل في جميع المعتقلات السرية والعلنية؛ ومن بينها في مخفر المعاريف المعروف المهدم ولو كان أحد المعالم التي كان ينبغي الإبقاء عليها شاهدة، وقد كان يشرف على التعذيبات من سنة 1963 إلى سنة 1970، ثم بعد محاكمة مراكش وصولا إلى ما عشتُه في اعتقالات 1981 و1984، حيث أشرف على تعذيبي”.
وتابع المصرح: “لقد كان اليوسفي قدور معروفا لأن الناس رأوه في معتقلاتٍ؛ لكنه كان يشتغل في المغرب كله، وكان يحرر أحكاما لينطقها قضاةٌ آنذاك، وأتحمل في هذا مسؤوليتي، فيما يتعلق بمجموعة 81 و84”.
وواصل الشاهد: “عندما مرض توقفنا عن الحديث عنه، وقد طُلِبَ مني إجراء شكاية، ولم أرد، لأن أخلاقي الحقوقية لا تمكنني من أن أشتكي بمحتضرٍ تخلت عنه الدولة وأسرته. لكن، لما تحسنت حالته، قدمت شكاية وطلبته من بين الشاهدين، في قضية اعتقال المقدم حامة في 1975 فهو من استنطقه وعذبه، حول الحسين المانوزي”.
وأضاف المانوزي: “لم يسبق لنا أن طالبنا بمساءلة أي كان، بل قلنا بتأجيل كل المساءلات الفردية، والمطالبات التي جاءت بعد شكايتنا في 2010، كانت تطالب بالرفات فيما يتعلق بزوجة التهاني أمين، وكانت أخرى قدمتها لجنة يترأسها عبد العزيز لوديي”.
وزاد: “في المنتدى كانت لدينا لائحة، وأخرجتها الجمعية المغربية لحقوق الإنسان، لكن لم نطالب يوما، في فترتي على الأقل، بالمساءلة؛ بل قلنا لنؤجل المسؤوليات الفردية، ليكون نوع من التعاون من الدولة (…) ولما ظهر أن الأفق في الدولة لم ينتج، ولم تتعاون بعض الأجهزة وخاصة المخابرات العسكرية، قررنا استحضار أسماء، مثل العنيكري وحسني بنسليمان، في إطار الشهادة لمعرفة أين دفن الحسين المانوزي، وليس لمساءلتهم”.
وحول “ضمانات عدم التكرار”، قال المانوزي إن أهمها الآلية الوطنية للوقاية من التعذيب، التي “يبقى سؤال أين وصلت؟ مطروحا”، ثم قال: “لا إثباتات لدينا على حصول الاختفاء القسري بعد سنوات الرصاص، أو اغتيالات سياسية؛ لكن التعذيب ما زالت هناك شبهات حوله (…) فلم توضع بعد الكاميرات في المخافر (…) ولو أنه لم يعد اختيارا ممنهجا للدولة لتصفية المعارضين”. وأثار في هذا الإطار الحاجة إلى “توسيع مفهوم التعذيب ليشمل كل أشكال التعنيف بما في ذلك التعنيف الخفيف واللفظي”.
ومن بين “ضمانات عدم التكرار”، بالنسبة للمتحدث: “سن إستراتيجية عدم الإفلات من العقاب، وهنا نفرق بينها وبين المساءلة؛ فالمسؤولون المباشرون ماتوا، مثل الملك الحسن الثاني وعدد من المسؤولين آنذاك، وهو ما سقطت معه الدعوى العمومية، لكن تبقى المساءلة السياسية”.
وحول وفاة اليوسفي قدور، أكد المصرح أن ضحاياه كثيرون؛ لكن يركز على بعضهم دون آخرين، ثم زاد: “كثيرون توفوا وذهبت معهم الحقائق، ويوجد تواطؤ ومشاركة أطباء، من بينهم حسوني، كانت تعرض عليهم الجثث وتكتب تقارير مزورة حول سبب وفاتهم للتستر على أن السبب هو التعذيب”.
وتتجلى أهمية المساءلة السياسية وكشف حقيقة ملفاتِ مجهولي المصير، وفق مصطفى المانوزي، في كون “صفحة الماضي لا يمكن طيها دون قراءتها”.
العدالة أولا
عبد الإله بنعبد السلام، رئيس الائتلاف المغربي لهيئات حقوق الإنسان، صرح بأن “الدولة في معالجتها لملف الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان غيبت العدالة؛ علما أن العدالة ركن أساسي في كل إنصاف ومصالحة، والعدل هو أن من كانوا مسؤولين عن الانتهاكات وتسببوا في قتل الناس وتعذيبهم وتشتيت عائلات ونفي أناس… كل هذا سبب ألما لضحايا الانتهاكات وأسرهم وأقاربهم وأصدقائهم والمجتمع برمته؛ لأن التعذيب والقتل وغيره من الجرائم المرتكبة لم يكن لها أثر فقط على الضحايا ومحيطهم، بل على المجتمع برمته، لأن هذا خلق حالة فزع وخوف من المشاركة السياسية ومن الشأن العام”.
وأضاف بنعبد السلام: “لا يمكن أن تتم معالجة هذا الأمر إلا بمقاربة شاملة وعادلة. والمقاربة في المغرب اقتصرت على جوانب من معالجة الملف، وأستحضر بعجالة عنوان تقييم قامت به منظمة العفو الدولية لتجربة الإنصاف والمصالحة: “الوعد الضائع”. لِم؟ لأن الدولة وعدت بإنصاف الضحايا والمجتمع، وهذا يأتي أساسا عبر المعالجة بشكل عادل وشامل، وهو ما لا يتأتى بالتعويض فقط، رغم أنه حق، والحقيقة فقط؛ بل يتأتى بانخراط البلاد في نادي الدول الديمقراطية، حتى نستطيع أن نقول إن المسلسل حقق أهدافه”.
وأردف المصرح قائلا: “الناس (ضحايا سنوات الرصاص) لم يكونوا يناضلون من أجل مناصب أو امتيازات، بل ناضلوا حتى ينعم هذا الوطن بالحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية والمساواة بين النساء والرجال، وهذا جوهر النضال؛ لكن الدولة لم تنصف المجتمع ولم تتصالح معه، بل أكثر من هذا رقي عدد من المسؤولين عن الانتهاكات الجسيمة”.
هنا، وقف رئيس ائتلاف هيئات حقوق الإنسان عند رحيل اليوسفي قدور: “لقد وصلت به حالته الصحية إلى عدم القدرة على الحركة؛ لكن الدولة ارتكبت فظاعات في حالته، فقد كان جزءا من وفد بجنيف لمناهضة التعذيب (1995)”.
ثم سجل أن “المسلسل برمته قد بني على فلسفة أساسية، هي عدم التكرار، والآن أتفاجأ بوصف التجربة المغربية في هذا المضمار بالفريدة التي لا مثيل لها، فهذا تضخيم. هي تجربة فيها عدد من الجوانب التي كانت مهمة، لكن ليس كما يقولون؛ لأن مسلسل هيئة الإنصاف والمصالحة انطلق بالموازاة مع تكرار الانتهاكات، بعدما وقعت أحداث 16 ماي 2003، وكان هناك تعذيب”.
واستحضر المصرح ما عاشه في لجنة متابعة توصيات المناظرة الوطنية حول الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، واجتماعها مع الراحل محمد بوزوبع، وزير العدل، حيث كانت الإحصائيات التي عنده آنذاك عن الاعتقالات أنها بلغت 8000، وأن أناسا توفوا تحت التعذيب في فاس وتارودانت، و”أتذكر الآن هاتين الحالتين، مع سرعة المحاكمة الجنائية بأحكام سنوات من السجن في يوم. نحن ضد الإرهاب؛ لكن حتى إذا انتهك أناس حق المجتمع والأفراد، فإن المحاسبة ينبغي أن تكون بالقانون”.
ومن منطلق أن “سياسة الإفلات من العقاب تشجع على تكرار الانتهاكات” قال بنعبد السلام في ختام تصريحه إن “وفاة اليوسفي قدور ضيعت على المجتمع وقوفه أمام القضاء، ليعرف المجتمع جرائمه ومن كانوا يعطونه الأوامر، وبدفنه دفن معه جزء من الحقيقة ومن ذاكرة هذا الشعب”.