انشغال بالتغيّر والثبات في التاريخ الحديث للمجتمع المغربي، وكتابة من منطلق “الواجب الوطني”، يشهد عليهما مؤلف جديد صادر عن أكاديمية المملكة المغربية، يضم دراسات للأكاديمي محمد الكتاني.
بعنوان “ثوابت ومتغيرات في مسار المغرب الحديث”، يهتم هذا الكتاب بالمتغيّرات التي باغتت المغاربة، ونتائجها في الوعي ونمط العيش والتحوّلات الجمعية والفردية، ويقف عند عدد من المواضيع التي طالتها رياح التغيير في تمثّلات الذات، والبحث عن تميّزها، وفي الاجتهاد الفقهي، والمستجدات الإعلامية، وفي المؤسسات التعليمية، خاصة الجامعية منها.
ورجّح الكتاني أنه ليس هناك موضوع “شغل المثقفين والباحثين المغاربة في هذا العصر، أو كان يجب أن يشغلهم، مثل التغيُّر والتطوّر اللذين نقلا حياة المغاربة من حياة متخلفة جامدة تجترّ تراثها وتقاليدها إلى حياة جديدة منفتحة متحرّكة، مقبلة على التجديد بغير تردّد، وعلى الاندماج في حياة العصر في ما يحمد منها وما يُعاب”.
وذكر أمين السر المساعد لأكاديمية المملكة أن التغيّر، أو التطوّر، الذي مسّ معظم الحياة الاجتماعية للمغاربة بدأ في مطلع العصر الحديث “خافتا وضعيفا، ثم أخذ يتنامى ويتّسع، متغلغلا في أعماق حياتنا، محرّكا لسواكنها، مثيرا للجدل والاختلاف والصراع أحيانا بين أنصاره وخصومه”.
في هذا الخضم “كان من الطبيعي أن يتساءل بعضنا حينئذ، ونحن نعيش هذه التحولات، وننساق لها حينا، ونقف في وجهها حينا آخر: أين تتجه بنا المتغيرات المتلاحقة؟ وما مستقرها وأهدافها؟ وما المنطق الخفي الذي يحرك مجتمعنا ويدفعه في تيارها، نحو الاندماج في ما أصبح يسمى (الحضارة الكونية) والتأقلم الحتمي مع العولمة؟”.
وأعاد الكتاني طرح هذه الأسئلة دون طمع في “الوصول إلى فلسفة مقنعة أو تفسير شامل يوقفنا على جوهر هذا التطور وغايته”؛ فـ”حسبنا أن نجاري ظواهر الحداثة التي تحولت إلى حداثات، تتلاحق أطوارها، بين تراجع السابق منها واستعلاء اللاحق”.
ويرى الباحث في التغيّر “مظهرا من مظاهر الذات أو الهوية الثابتة، أي جوهرا معقولا ومحددا لا تنال السيرورة من جوهره الذي هو الديمومة بوعي الذات لنفسها مهما كانت التغيُّرات”.
لكن، في ظل هذا الواقع سطّر الكتاني على الحاجة إلى تحكّم يوجّه مستجدات التطور والتغيّر “نحو ما هو أصلح وأوفق”، حتى لا تتحوّل الظاهرة إلى “هدم ونقض، أو تهديد للهوية الوطنية وثوابتها القيمية”.
ويفصح الكتاني عن صدمته، وتخوفه، من غياب تاريخ المغرب في الذاكرة الوطنية لدى الأجيال الصاعدة؛ لأن غياب هذا التاريخ في ذاكرتها أو في ذاكرة الجيل السابق لها “ظاهرة صادمة، ليس فقط لأنها لا تليق بقيم المواطنة، ولكنها صادمة من حيث تُعدّ جهلا بالهوية الوطنية، التي نسجها تاريخ طويل من النضال والصمود والتضحيات، ودليل على ضعف مناعتنا الوطنية أمام الغزو الأجنبي الثقافي منه والسياسي، بل دليل على عجزنا عن حماية أنفسنا من التضليل والتزييف لتاريخنا وقيمنا”.
من هذا المنطلق يفهم ربط الأكاديمي أيَّ خيار، سواء اقتنع بالانسياق لمنطق التغيّر أو بالبحث في إمكانيات التحكم في توجيهه أو غير ذلك، بضرورة أن يكون “موضوع حوار يتقصّى كل الجوانب، ويقلّب وجوه الرأي في الأخذ به أو نبذه، وتحرّي أفضل الخيارات الممكنة في التفاعل مع منطقه”.
ويتابع الكاتب: “التاريخ الوطني متى ملأ الذاكرة وحصّن الهوية حوّل الشخصية الوطنية إلى قَلعة منيعة، قادرة على رفع التحديات. لذلك يكون مِن أخشى ما نخشاه أن يصبح الجهل بتاريخ المغرب ذريعة للهجوم عليه وطمس حقائقه”؛ ثم يسترسل قائلا: “يعد الرجوع إلى تاريخنا الوطني في شتّى تجلياته ومساراته ومواقفه واجبا وطنيا لا يقل أهمية عن حماية الأرض والحدود والسيادة”. وفي هذا الإطار تفهم الكتابات التي يضمها هذا المؤلف الجديد والقضايا التي تقف عندها.