يعتبر المفكر والمترجم السوري هاشم صالح أحد أبرز المفكرين التنويريين بمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، بالنظر إلى إسهاماته البحثية المهمة في قضايا التجديد الديني، ونقد الأصولية، ونقاشات الحداثة وما بعدها.
ضمن هذه المقابلة التي أجرتها معه جريدة هسبريس الإلكترونية، يتطرق هاشم صالح إلى أسباب هيمنة النزعة الجامدة على عصر “الانحطاط الإسلامي”، ونقاشات الإرث العقدي التي صاحبت جائحة “كورونا”.
كما يرصد مُؤلّف كتاب “مدخل إلى التنوير الأوروبي” دوافع عدم انتشار المشاريع الفكرية النهضوية بالمنطقة، وواقع الخطاب السلفي بعد الجائحة، ومداخل إصلاح التعليم الديني بمجتمعات المنطقة.
وإليكم تفاصيل الحوار:
كشفت أزمة كورونا عن ممارسات دينية تقليدية مغروسة في مجتمعات المنطقة، بينها “نظرية المؤامرة”، اعتبارا للدور الذي لعبته الأزمة في زعزعة “الأمان الديني” بين المواطنين. لماذا ما زالت النزعة الجامدة تهيمن على الإسلام الكلاسيكي؟
لا تزال النزعة الدينية الجامدة تهيمن على عصر الانحطاط، وليس على العصر الكلاسيكي المدعو أيضا بالعصر الذهبي. نحن ورثة عصر الانحطاط السلجوقي العثماني الممتد منذ ثمانية قرون، وحتى اليوم، ولسنا ورثة العصر الذهبي؛ عصر الكندي والفارابي وابن سينا والجاحظ والتوحيدي والمعري وبقية الكواكب والنجوم التراثية المبدعة. ابن رشد توفي عام 1198، وكان آخر فيلسوف كبير مبدع في تاريخنا.
كانت الحضارة الإسلامية إبان العصر الذهبي تسير على دعامتين اثنتين، هما دعامة الدين ودعامة العلم والفلسفة. وعندما انهارت إحدى الدعامتين، أي دعامة العلم والفلسفة، وانتصر الغزالي على ابن رشد، انهارت حضارتنا، وانتقل مشعل الحضارة إلى أوروبا. عندئذ أغلق الفقهاء باب الإبداع والاجتهاد، ودخلنا في عصور الانحطاط الطويلة التي لم نستفق منها، ولم نستطع تجاوزها حتى الآن، أو قل تجاوزتها النخب المثقفة، ولكن ليس الجماهير الغفيرة الفقيرة الأمية إلى حد كبير.
لذا، ينبغي أن ننهض بشعوبنا ونثقفها ونعلمها وننورها، لكن هذه مسألة صعبة تستغرق عدة أجيال، ولكننا سائرون على الطريق بحمد الله. والدليل على ذلك كل هذه التطورات الإيجابية التي تحصل في بلد عظيم كالمغرب. فهو يتوفر الآن على نخب علمية وطبية وأكاديمية تملأ القلب بالأمل. وعندما أتحدث عن النخب، فإنني أقصد الرجال والنساء أيضا، وليس فقط الرجال، فالمرأة المغربية أثبتت تفوقها وكفاءاتها في كافة المجالات.
شكّلت لحظة كورونا “حَراكا ثقافيا” بين النخب بالنظر إلى النقاشات الإيديولوجية التي عرفتها المجتمعات بخصوص الحلول الرادعة للأزمة، غير أن شريحة عريضة من مجتمعاتنا عادت إلى “الإرث العقدي” لرفع ما أسْمته بـ”البلاء الإلهي”. إلى أي حد كانت جائحة كورونا مبعثا لتحقيق “انفراج إيديولوجي” في ظل تلك النقاشات؟
في مواجهة وباء ضخم مرعب مثل كورونا، كان من الطبيعي أن يلجأ الناس إلى موروثهم الديني للاحتماء به. هذه الظاهرة ليست مقتصرة على الإسلام، وإنما هي موجودة في المسيحية، وأديان أخرى أيضا. ولكن الشيء الذي لاحظته، وأدهشني وأثار إعجابي، هو أن الدولة في المغرب واجهت الوباء بشكل علمي عقلاني عن طريق تنظيم حملات التوعية للمواطنين، وتوفير اللقاحات والكمامات والإرشادات الضرورية بسرعة قصوى.
هذا شيء يحسب للملك وللحكومة المغربية التي أبدت حرصا كبيرا على حياة المواطنين، واتخذت كل الإجراءات اللازمة على مدار موجات الوباء المتلاحقة التي نرجو أن تنتهي عما قريب. الحديث النبوي الشريف يقول: “اعقلها وتوكل”، لم يقل توكل فقط، وسلم نفسك للمقدور، واستسلم ولا تفعل شيئا. هنا يكمن الفرق بين جواب دولة حديثة كالدولة المغربية على الوباء، وجواب السلفيين الغاطسين في الغيبيات والخرافات.
اتخذت الدولة كافة الاحتياطات لحصر الوباء، وتحجيمه، والقضاء عليه في نهاية المطاف، ثم توكلت على الله؛ وهذا هو المعنى الحرفي للكلام النبوي: “اعقلها وتوكل”. أما الجواب السلفي فيكتفي بنصف المعادلة: أي بالتوكل، والتدرويش، والتكاسل فقط، وهو جواب خطير لا يؤدي إلى أي نتيجة. لا، بل إنه يؤدي إلى عكس النتيجة إذا ما اكتفينا به؛ أي إلى تفاقم الوباء، واستفحاله، وخروجه عن حد السيطرة. ماذا يعني كل ذلك؟ إنه يعني أن الإسلام هو دين العقل والمنطق إذا ما فهمناه على حقيقته. إنه دين العلم والإيمان معا. وعلى هذا النحو يمكن أن تنفرج كربة كورونا بإذن الله.
عرفت المنطقة العديد من المشاريع الفكرية النهضوية الرامية إلى تحرير المواطنين مما تصفه بـ”الانغلاق اللاهوتي”، لكن مشروع الإصلاح الديني ما زال حبيس النقاش المجتمعي والسياسي. هل ذلك يعني أننا لم نهضم بعد إنجازات هؤلاء المفكرين الكبار الذين فقدنا بعضهم في الآونة الأخيرة؟
صحيح، أننا لم نهضم بعد إنجازات المفكرين الكبار، وعلى رأسهم أستاذي ومعلمي البروفيسور محمد أركون. ولو أننا فهمنا فكره واستوعبناه جيدا، لكننا تجاوزنا كل هذا الجهل المتراكم في ساحة الفكر الديني. لقد أضاء التراث الإسلامي الكبير بشكل غير مسبوق عندما طبق عليه أحدث المناهج العلمية واللغوية والألسنية والاجتماعية والأنثروبولوجية، ثم بالأخص عندما طبق عليه منهجية تاريخ الأديان المقارنة.
لا تستطيع أن تفهم تراثك جيدا إذا ما ظللت منغلقا فيه أو داخله. ينبغي أن تخرج منه ولو قليلا لكي تقارنه بتراثات دينية أخرى، وبخاصة التراث المسيحي والتراث اليهودي في الغرب. وهي كلها تراثات توحيدية إبراهيمية، فعلماء أوروبا طبقوا المنهج التاريخي على كليْ التراثين اليهودي والمسيحي، واستطاعوا تحرير الناس من الدوغمائيات الجامدة والأصوليات المتحجرة.
هذا ما فعله أيضا مفكر عملاق كمحمد أركون بالنسبة للتراث الإسلامي. لقد قدم له أكبر خدمة في تاريخه عن طريق تحريره من كل الانغلاقات اللاهوتية بكل تمكن واقتدار. وهنا تكمن فرادة مشروع أركون، وتفوقه على كل المشاريع الأخرى التي تنطحت لتجديد التراث. هناك فرق نوعي بينه وبينها، لا مجال للمقارنة.
مشروعه هو وحده القوي القادر على إنقاذ الإسلام والمسلمين من براثن الجمود وانغلاقيات عصر الانحطاط، وهو وحده القادر على مصالحة الإسلام مع الحداثة، أو مع أفضل ما أعطته الحداثة. أقصد مصالحته مع إيجابياتها التحريرية المفيدة، لا مع شططها وانحرافاتها وسلبياتها. نتمنى أن يتم اعتماد كتبه في برامج التعليم الجامعية، بل حتى الثانوية، لكي تستضيء عقول المسلمين، ويعودوا إلى سابق مجدهم وعصرهم الذهبي مرة أخرى.
أشير هنا إلى عدة كتب كنت قد ترجمتها سابقا. نذكر من بينها كتابا بعنوان: “تحرير الوعي الإسلامي: نحو الخروج من السياجات الدوغمائية المغلقة” (منشورات دار الطليعة، بيروت، 2011). وقد أهديت الترجمة له على النحو التالي: “إلى محمد أركون، أحد كبار محرري الروح البشرية من الانغلاقات اللاهوتية”.
ونذكر أيضا كتابه الآخر: “نحو نقد العقل الإسلامي” بالمعنى الفلسفي العميق لكلمة نقد، وليس بمعنى التجريح (منشورات دار الطليعة، بيروت، 2009). كما نذكر كتابه المعنون بـ”نحو تاريخ مقارن للأديان التوحيدية” (منشورات دار الساقي، بيروت، 2011). هذا غيض من فيض مما صدر له بالعربية.
تطفو مجموعة من القضايا التراثية على سطح النقاش العمومي بالمنطقة ككل، بما يشمل الإرث والمساواة بين الجنسين والتربية الدينية، ما يدفع البعض إلى مساءلة “العقل الفقهي” الذي أنتج لنا واقعا اجتماعيا متأزما للغاية، فلا هو متصالح مع الأسس الأولى للإسلام ولا هو منفتح على التسارع الثقافي الهائل. كيف بالإمكان إعادة النزعة الإنسانية المفقودة إلى الإسلام؟
الجواب على هذا السؤال نجده أيضا عند البروفيسور محمد أركون، فقد أمضى حياته كلها في التحدث عن النزعة الإنسانية، وضرورة عودتها إلى العالم الإسلامي. كتابه الكبير الأول كان عنها، وكتابه الأخير تقريبا كان عنها. الكتاب الأول الصادر عام 1970 عن “دار فران” الفلسفية الرصينة الموجودة في ساحة السوربون، كان بعنوان: “النزعة الإنسانية العربية في القرن الرابع الهجري/ العاشر الميلادي-مسكويه فيلسوفا ومؤرخا”، وهو الذي نقلناه إلى اللغة العربية تحت عنوان: “نزعة الأنسنة في الفكر العربي” (منشورات دار الساقي، بيروت). أما الكتاب الثاني فقد صدر أيضا عن “دار فران” الفلسفية تحت عنوان: “النزعة الإنسانية والإسلام” عام 2005.
أما فيما يخص العقل الفقهي القديم، فينبغي تجاوزه كليا لأنه لم يعد صالحا لعصرنا. لقد أكل عليه الدهر وشرب. وأود بهذا الصدد أن أشيد بجرأة الرئيس التونسي السابق الباجي قائد السبسي الذي ساوى بين المرأة والرجل في الإرث. وكان بذلك وفيا لروح القرآن الكريم، ولكن ليس لحرفيته التي يتعلق بها السلفيون ويجمدون عندها، فروح القرآن هي مع التطور، لا مع الجمود، وينبغي أن نفرق بين الحرف/ والجوهر.
ما زال الخطاب الإسلامي التقليدي يُضخّم مفهوم الأمة على حساب الكيانات السياسية المعاصرة، وهو ما انعكس بالسلب على الهوية القومية لمواطني المنطقة (هويتنا هي الإسلام)، حيث يُعرّف أغلب الناس أنفسهم بأنهم مسلمون أولاً، ثم يحددون دولة الانتماء ثانياً. ما مدى خطورة هذا التضخم الهوياتي على مستوى صناعة الجماعات الإرهابية؟
هناك تنظيمات أصولية، مثل الإخوان المسلمين، لا تعترف بالدول القائمة، وإنما فقط بالأمة الإسلامية الشاملة. أحد قادتهم اشتهر بهذه العبارة: “طز في مصر!”؛ بمعنى أن مصر الوطنية لا تساوي شيئا قياسا إلى الأمة الدينية، وهو لا يعترف بالدولة المصرية، وإنما فقط بدولة الخلافة الإسلامية.
هذا تفكير سلفي قديم أكل عليه الدهر وشرب، فنحن نعيش لحسن الحظ في عصر الدول القومية الحديثة، كمصر والمغرب وتونس وغيرها، لا في عصر الخلافة العثمانية البائدة. هذا التعصب للهوية الدينية الطائفية هو الذي يلغي الأوطان. وهذا الفهم الخاطئ لرسالة الإسلام السمحة هو الذي أدى إلى التعصب والتطرف، وظهور الحركات الإرهابية مؤخرا.
لطالما كانت المدرسة فضاءً لاستخدام العقل وتشجيع الفكر الفلسفي على امتداد فترات تاريخية معينة بمنطقتنا، لكنها أصبحت تعاني من علل متراكمة جعلتها منصة لتكريس “الجهل الديني” وسط التلاميذ. ما هي مداخل إصلاح التعليم الديني؟
يا سيدي، إصلاح التعليم الديني هو مدخل المداخل وبداية البدايات. من هنا نبدأ، ومن هنا ننطلق. الإصلاح الديني شرط أساسي للإصلاح الاجتماعي والسياسي، بل حتى الاقتصادي. الفهم الخاطئ للدين يؤدي إلى الكوارث، والفهم الصحيح يؤدي إلى الفوز المبين في الدنيا والآخرة. برامج التعليم الديني أخطر من القنبلة الذرية، فإما أن تولد أجيالا تنويرية، وإما أن تفرخ أجيالا داعشية، ولكم الخيار. كل شيء يعتمد على كيفية تدريس مادة التربية الدينية.
كنت قد تحدثت عن هذه القضايا بشكل موسع في كتبي الثلاثة الأخيرة المتلاحقة الصادرة عن “دار المدى” في بغداد/ العراق: الكتاب الأول كان بعنوان: “لماذا يشتعل العالم العربي؟” (2020)، والكتاب الثاني بعنوان: “العرب بين الأنوار والظلمات” (2021)، والكتاب الثالث صدر قبل أسبوع فقط بعنوان: “الإسلام في مرآة المثقفين الفرنسيين” (2022).