من يعرف المجتمع الهولندي جيدا ويدرك طريقة تفكير أصحاب القرار فيه حول العديد من الصراعات والحروب في العالم، يبدو له أول وهلة أن تغيير مواقف الحكومة الهولندية تجاه صحرائنا المغربية أمر صعب وما زال بعيد المنال وذلك لعدة اعتبارات من بينها، كون المواطنين الهولنديين ومعهم رجال السياسة يميلون دائما إلى مساندة الأقليات ومؤازرة الضعفاء. ولعل الصراع الإسرائيلي الفلسطيني والصورة النمطية عن العرب بصفة عامة وخصوصا منذ حرب 1973، والتي استطاع من خلالها اللوبي الصهيوني التغلغل في جميع المرافق الهولندية، وتوجيه وسائل الإعلام، وتصوير المواطن العربي عامة والأنظمة العربية بصفة خاصة، كأنهم وحوش وأناس متخلفون ولا يعرفون إلا البذخ والعنف. وأن إسرائيل هي الضحية. هذا النموذج من الأحداث إلى جانب أمور أخرى، جعل هذه الصور النمطية تبقى راسخة في ذهـن شريحة كبيرة في المجتمع، ولها تأثير في عقلية الناخب الهولندي، مما يعني في المحصلة، التأثير كذلك على الأحزاب السياسية وأصحاب القرار. لكن كما يقال، ليس هناك شيء قار وثابت في السياسة، بحيث يصبح تغيير المواقف مرتبطا ومرهونا بالمصالح والمنافع وليس بالمبادئ أو العواطف. هولندا معروفة منذ نشأتها بالتعاطي للتجارة. إذ كانت تغزو كل المناطق في العالم. وكان الهولنديون في البداية بارعون في القرصنة، حيث كانوا يطوعون البحار والمحيطات لغزو الأسواق العالمية، كما تفننوا في صناعة السفن وتجفيف مياه البحار. مما جعل الأوروبيين يطلقون عليهم المثل المعروف: “الله خلق الأرض، والهولنديون خلقوا هولندا”.
إذن، بعد هذ المقدمة المختصرة، نعود إلى القرار الإيجابي حول اعتراف وتبني الحكومة الهولندية المقترح المغربي المتمثل في الحكم الذاتي لأقاليمنا الصحراوية. هذا القرار الجريء والواقعي من طرف الهولنديين لم ينزل من السماء أو كان مجرد قرار اعتباطي أو عشوائي، بل هو قرار مدروس ومبني على مصالح مشتركة بين البلدين، وله أبعاد اقتصادية وتجارية متوازية مع أمور أمنية واستراتيجية. بطبيعة الحال، هناك عناصر أساسية أخرى، ساعدت كذلك وأدت في النهاية إلى الوصول إلى هذا الموقف المشرف والإيجابي تجاه وحدتنا الترابية. وفي نظرنا هناك 3 أمور أساسية أوصلت هولندا إلى هذه القناعة والوقوف إلى جانب المغرب. أولا، لا أحد منا يمكنه أن ينفي أو يتجاهل حركية الديبلوماسية المغربية ونجاحاتها في السنوات الأخيرة، التي اتسمت بالهدوء والرزانة وبعد النظـر تحت القيادة الرشيدة لصاحب الجلالة محمد السادس نصره الله. ثانيا، لاحظ الهولنديون أن العاهل المغربي بحكمته وتبصره وانفتاحه على العمقين الإفريقي والأوروبي ومواقف جلالته المدروسة بعناية كبيرة حول الصراعات الدولية، وعن التقدير والاحترام لجلالته من طرف العديد من الرؤساء سواء في إفريقيا أو أوروبا أو أنحاء أخرى في العالم، أدركت هولندا أن المغرب أصبح رقما صعبا، لا يمكن الاستغناء عنه، بل هو المفتاح للولوج إلى الأسواق الإفريقية. الأمر الآخر، أدرك الساسة الهولنديون أن القادة في الجزائر لا يمكن التعويل عليهم، وذلك بسبب تقلبات مزاجهم وتخبطهم وتصريحاتهم العبثية، وقراراتهم الارتجالية. كما اتضح لهم بأن أسطوانة تقرير المصير لم تعد مقنعة ولا فعالة، وخصوصا لما تأكدوا بالملموس، أن ما كانت تردده الجزائر كونها ليست طرفا مباشرا في الصراع، اتضح للهولنديين مواطنين وسياسيين، بأن الأمر لا يعدو سوى حقد دفين، وكراهية كبيرة تجاه المغرب، خصوصا بعد مواقف إسبانيا الأخيرة تجاه وحدتنا الترابية، والطريقة العبثية والاعتباطية التي جعلت الجزائر تسحب سفيرها بتلك السرعة وقطع الغاز عن المغرب وتهديد إسبانيا ومن خلالها مصالح الأوروبيين. هذا النوع من التصرفات الصبيانية والغير المدروسة من طرف العسكر، جعلت هولندا تبتعد عن سياسة الجزائر، لأن العقيدة التي يتميز بها الهولنديون في معاملاتهم ومصالحهم مع الدول، تتمثل في النفس الطويل وبعد النظـر، والتأني في اتخاذ القرارات، وهذه الثقافة وكيفية إدارة الأمور في الأراضي المنخفضة، هي نقيض ما يصدر من حكام الجزائر، إذ لا يمكن لدولة متحضرة مثل هولندا التي تبني استراتيجيتها لـ 30 أو 40 سنة قادمة، أن تتعامل مع حكام مزاجيين. العنصر الثاني الذي ساعد إلى الوصول إلى هذا الموقف الايجابي من طرف هولندا تجاه صحرائنا المغربية، هو أنه لا ننسى، أنه في السنوات الثمانية الأخيرة، كان على رأس الدبلوماسية المغربية بالأراضي المنخفضة، سفير صاحب الجلالة السابق السيد عـبد الوهاب بلوقي، الذي كانت تربطه علاقات قوية مع الهولنديين، وساعده في ذلك احترافيته وتجربته الطويلة في الميدان الدبلوماسي، حيث تقلد عدة مناصب في أمريكا والعراق وسوريا، ثم اتقانه للغات الأجنبية، وعلى رأسها الإنجليزية والإسبانية والفرنسية، وكذلك الانفتاح والكاريزما اللتان كان يتمتع بهما، كل هذا سهل مأموريته وجعله يكون مؤثرا ومقنعا في معاملاته وحواراته، ومحبوبا من طرف الجميع، وأصبحت هذه العناصر مجتمعة تجعله يخترق المجتمع الهولندي ويستطيع إقناع السياسيين بعدالة قضيتنا الوطنية. هذا ونحن متأكدون بأن العلاقة بين المملكتين ستتعزز بدون شك، كون الدبلوماسية المغربية اعتمدت كذلك على السفير الجديد، السيد محمد بصري الذي كان يدير الشؤون القنصلية بوزارة الخارجية، وهو بدون شك، مطلع على العديد من الملفات وخبايا الأمور، مما سيسهل مهمته، ويدفع العلاقات بين البلدين إلى الأفضل. العنصر الثالث الذي لا يقل أهمية هو دور المجتمع المدني الذي ننتمي إليه. فكل الفعاليات والجمعيات من أصل مغربي في مختلف المدن الهولندية، كانت وما زالت تمثل لهم قضية الصحراء خطا أحمـر. بحيث نسج العديد من الإخوان والأخوات علاقات متينة مع فاعلين وأحزاب سياسية هولندية وكانت قضية الصحراء دائما مطروحة. كما ساعد ولوجنا إلى أحزاب سياسية هولندية، وأداء اشتراكاتنا السنوية معهم، ومنحنا المصداقية لتمرير شروطنا والمتمثلة في تبني موقف إيجابي من الصراع في الصحراء. لأننا ندرك أن وضع حد لهذا الصراع الذي قارب 50 سنة، والذي جعل بلدنا مجبرا على الدفاع عن وحدته الترابية، وصرف الملايير من الدولارات التي كانت كافية لولا إدامة هذا الصراع من طرف الجزائر، لازدهار المغرب، والرفع من المستوى المعيشي للمواطنين والاهتمام أكثـر بالبنية التحتية، وتحسين التعليم والرعاية الصحية والنهوض بالقطاعات الأخرى. كما لا ننسى ما قمنا به كفعاليات من استمالة بعض الصقور داخل الأحزاب الكبيرة والتي لها تأثير ودور رئيس في توجيه سياسة الأحزاب، إذ حضر بعضهم إلى ندوات سابقة في المغرب وفعلا تغيرت آراء ومواقف الكثير منهم، وأصبحوا متفهمين أكــثر للموقف المغربي وهذا مكسب لنا جميعا.
أخيرا، نشير إلى أن الموقف الأخير للحكومة الهولندية تجاه وحدتنا الترابية سبقته إشارات إيجابية، أولها تصريح العاهل الهولندي الملك فيليم ألكسندر الذي صرح بأن العلاقة مع المملكة المغربية متميزة ويجب تعزيزها وتقويتها، وذلك أثناء استقباله للسفير المغربي الجديد أثناء تقديم أوراق اعتماده، بعد ذلك نشرت القنوات التلفزية الرسمية الهولندية خريطة المغرب كاملة عكس ما كان سابقا، وصولا إلى تصريح وزير الخارجية الهولندي السيد هوكسترا الذي قطع الشك باليقين وأقر بأن موقف هولندا الرسمي، هو تبني الاقتراح المغربي المتمثل في الحكم الذاتي باعتبار حلا واقعيا ويضع حدا لهذا الصراع الذي دام طويلا.