انعقدت، ندوة علمية دولية برحاب كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية بفاس، نظمها مختبر الدراسات السياسية والقانون العام، بشراكة مع مركز تكامل للأبحاث والدراسات ومؤسسة هانس سايدل الألمانية؛ اختير لها موضوع بعنوان: “عشر سنوات من الحراك الاجتماعي والسياسي بالمنطقة المغاربية: مآلات وانتظارات”.
قدمت في هذه الندوة ما يربو عن عشرين مداخلة في جلسات علمية خمس، بالإضافة إلى الجلستين الافتتاحية والختامية، وساهم فيها ثلة من الأساتذة والباحثين والخبراء من المنطقة المغاربية، ينتمون إلى تخصصات معرفية مختلفة وجامعات ذات تقاليد بحثية أغنت النقاش وعمقت زوايا النظر إلى الموضوع. وعند النظر إلى هذه المداخلات مجتمعة بعين إبستمولوجية، يبدو أنها تنهل الشيء الكثير من فلسفة التعقيد، كما ارتضاها إدغار موران عندما انتهى إلى أن تعقد العالم يفرض ضرورة إرساء براديغم جديد يتبنى تعددية الأبعاد ونسبية الحقائق ووجوب جسر التخصصات العلمية درءا لمفسدة الانغلاق.
من هذا المنطق، انفتحت الندوة على قطاعات معرفية متباينة توزعت بين العلوم السياسية والسوسيولوجيا والأنثروبولوجيا والتاريخ والجغرافيا السياسية والعلاقات الدولية. ويحمل ذلك في ثناياه درس فلسفة العلوم الذي يتمحور مقتضاه حول كون مناطق التداخل بين مختلف القطاعات الإبستيمية هي حضن ولادة المعارف الجديدة، رغم كون السير في مناطق التخوم محفوفا بعدة مخاطر.
وباستقصاء المقومات المنهجية للمداخلات، تتكشف المقاربة النسقية المعتمدة في برنامج الندوة، خاصة عندما تعلق الأمر بدراسة الانتقال الديمقراطي. كما لم يُعدم حضور المناهج الكمية إلى جانب الكيفي منها لاستجلاء
واقع الحراك وتشخيص مآلاته، منظورا إليه وضعانيا (بنوعي الوضعانية الباردة والملتزمة)، وفينومينولوجيا (عندما تمت دراسة إدراك الناس وتمثلاتهم لواقعهم). وحملت المداخلات رؤية استشرافية دون مغادرة أرضية الواقعية السياسية، وهو ما جعل التنبؤ بمفازة من الارتماء في الضباب.
وبناء عليه، سار الخيط الناظم لموضوعات هذا اللقاء، الذي يأتي بعد حوالي عشر سنوات من الحراكات الاجتماعية في الدول المغاربية والعربية، وفق منطق ثلاثي:
-اهتمت اللحظة الأولى بالنظر إلى الحراك الاجتماعي ودراسة الفعل الاحتجاجي عبر رصد دور مختلف الفاعلين (شباب، تنظيمات تقليدية، ألتراس…) في تأطير وتنظيم الفعل الاحتجاجي، وما عبؤوه من موارد وذخيرة تم تصريفها في مشهد وفضاء احتجاجي، كشفت دراسة مقوماته، في بعض التجارب المغاربية، أنه يرقى إلى مستوى الفضاء العمومي، كما نظر له هابرماس، والنتيجة أنماط من الأشكال والاحتجاج والديناميات لم تعهدها المنطقة المغاربية من قبل.
-أما اللحظة الثانية في مسار هذه الندوة فرامت الغوص في كيفية تعاطي الدولة وقنواتها مع الحراك الاجتماعي. واهتم الباحثون بموقعة الحراك داخل الحقل السياسي المُمأسس، ما دامت تسائل مدى فعالية الأجهزة والقنوات الرسمية في إخضاع المطالب الاجتماعية للعمومية عبر جعلها من أولويات أجندتها السياسية.
-عنيت اللحظة الثالثة من هذا المسار الثلاثي الناظم للمداخلات العلمية المقدمة بتعقب آثار التقاطع بين اللحظتين السابقتين؛ أي الفعل الاحتجاجي من جهة، وتعاطي الدولة المغاربية معه من جهة ثانية، كاشفة النقاب عن مسار الفعل الاحتجاجي وعلاقته بالتحول في بنية النظام السياسي؛ وتبدى ذلك من خلال جعل تيمة الانتقال الديمقراطي بؤرة للفحص والدراسة، مع استحضار دور النخب العسكرية والمدنية والقبيلة والمرأة والتنظيمات الحزبية في ممارسة السلطة السياسية ومآلات دولة الحق والقانون.
كما كشفت المداخلات المقدمة في الندوة، التي شاركت فيها مجموعة من الأسماء التي واكبت الفعل الاحتجاجي المغاربي من أمثال: السوسيولويجي محمد الناجي وأستاذ العلاقات الدولة محمد الشرقاوي، وأستاذ الجغرافية السياسية مصطفى الحياوي، والباحث في الحركات الاجتماعية محمد السعدي، والمؤرخ التونسي محمد الزهر غربي، وغيرهم من الأساتذة المختصين في المجال من مختلف الدول المغاربية، (كشفت) عن جملة من النتائج منها:
-صعوبة الحسم في أولوية البعد السياسي في ظل حضور وازن للأبعاد الثقافية الرمزية والتاريخية والاقتصادية؛ سواء في تهيئة شروط استمرارية الحراك أو في تحديد مطالبه أو في تشكيل طرق تعاطي الدول معه.
– ظلت الثقافة، خاصة في جانبها الديني المقدس(العقيدة)، والقبيلة (الروابط الأولية)، تؤدي أدوارا طلائعية في الاجتماع السياسي العربي، مقارنة بالبنيات الاقتصادية والسوسيولوجية؛ وساهم ذلك في جعل الوجهة غير محددة بدقة، خاصة أن مفاهيم الحرية والديمقراطية ارتبطت بالحراك كثيرا، وهي مفاهيم اختفت من فرط تواجدها على السطح؛ خاصة في ظل تنازع بين الحداثة والتقليد، وتجاذب بين الهامش والمركز، تمتد جذوره إلى أزمنة بعيدة وتاريخ منسي في الظاهر، لكنه فاعل على مستوى اللاشعور السياسي والذاكرة.
-كشفت دراسة التجارب المغاربية المختلفة، بوصفها مختبرات لدراسة مدى نجاح هندسة الانتقال الديمقراطي، أن الفوارق دالة بين الدول (بين المغرب والجزائر مثلا)، على أن الأمل الذي كان معقودا في البداية على هذا الحراك عرف انتكاسات وتراجعات (تونس نموذجا)، واكتنفه عسر انتقال، دون أن يعني ذلك إرسال حكم سلبي مخيب؛ “فلا يمكن أن نتقدم بدون خيبات أمل”.
-إن التوظيف السياسي للقبيلة حال دون تفكيك عروتها والانتقال بالروابط الأولوية إلى روابط المواطنة وبناء الدولة الحديثة، كما أنه حرمها من العودة إلى القيام بدورها التقليدي في حفظ السلم والأمن، ومواجهة التدخل الأجنبي الذي لم تسلم منه العديد من التجارب (علامته الحالة الليبية).
-إن وضع المرأة في هذا الحراك، وإن وسم في بدايته بحضور ملحوظ، أعقبه تكريس قانوني للتمييز الإيجابي والمناصفة، فإن مآلاته تشي بأن المشاركة الظاهرية في المؤسسات السياسية لم تنفذ إلى عمق التغيير الاجتماعي للصور النمطية والهيمنة الذكورية، كما تؤكد على ذلك اتفاقية مناهضة كافة أشكال التمييز ضد المرأة، وهو ما يسائل الثقافة الشعبية أكثر من مساءلة مؤسسات الدولة.
– ظل الحراك الاجتماعي يتراوح بين مستويين؛ ففي وقت يعبر عن نفسه بطرق وأشكال جديدة، قد توحي بنوع من القطيعة؛ فهو لم يغادر تماما (الاستمرارية) نوع المطالب الاجتماعية والسياسية التي قدمتها الحركات الوطنية في العقود السابقة؛ خاصة أن تجربة الانتقال الديمقراطي وإن نجحت من الناحية السياسية نسبيا فإنها افتقدت لفرش مادي اقتصادي يمكن من ضمان التحول المأمول، كما أنها افتقدت للديمقراطية داخل التنظيمات المطالبة بالديمقراطية (الأحزاب السياسية وباقي التنظيمات المدنية).
ويبدو أن المقتضى في هذه الندوة فاق المنطوق فيها، فعلى مدار يومين من التفاعل الهادئ والجريء، فتحت آفاق متعددة للبحث ستجعل هذه الندوة مهادا لمزيد من الاستقصاء والنظر في موضوع مازال “قيد التشكل” و”مشروع لم يكتمل بعد”؛ فالانتظارات عالية، وبعض المآلات رغم ديناميتها مخيبة للآمال، وبين “ما ينبغي أن يكون”، و”ما هو كائن”، مساحة كبيرة للتنقيب والبحث وللتفكير والنظر، كما جاء على لسان بعض المتدخلين