وصف الإعلامي نزار الفراوي فيلم “لو كان يطيحو لحيوط” لمخرجه حكيم بلعباس بالمحطة التي تغوي كبار المبدعين برحلات عبر الزمن كلما تقدموا في العمر والتجربة، موردا أن مخرج العمل يمزج الوثائقي والروائي، في ممارسة تعكس رؤيته لعلاقة السينما بالواقع، من حيث التباس العلاقة بين الكاميرا والحقيقة.
وأضاف الفراوي، ضمن مقال توصلت به هسبريس، أن الفيلم يتضمن قصصا متفرقة رابطها المكان بثقله الطللي والرمزي، وحرفة الإنصات الشفيف إلى النشيج السري للكائن في آلامه وسعيه التراجيدي في ملعب تجاذب الإرادة والقدر.
هذا نص المقال:
يقدم المخرج حكيم بلعباس في فيلمه الجديد “لو كان يطيحو لحيوط” 18 قصة من وحي الطفولة، سليلة ما رأى وما سمع، وربما ما تخيل أنه حدث في مسقط رأسه، أبي الجعد، الفضاء المرجعي في معظم أعماله. قصص متفرقة رابطها المكان بثقله الطللي والرمزي، وحرفة الإنصات الشفيف إلى النشيج السري للكائن في آلامه وسعيه التراجيدي في ملعب تجاذب الإرادة والقدر.
يعود بلعباس إلى مزج الوثائقي والروائي، في ممارسة تعكس رؤيته لعلاقة السينما بالواقع، من حيث التباس العلاقة بين الكاميرا والحقيقة. الفيلم محطة أخرى في قطار العودة الذي يغوي كبار المبدعين برحلات عبر الزمن كلما تقدموا في العمر والتجربة. ينكصون عميقا في بئر الطفولة والأمكنة الأولى والأشياء المفقودة، يستدعون ما عدوه بداهة ويبعثون شخوصا كان يظن أنها بلا أثر، ويحيون أشياء سريعة التحلل، ضد النسيان واللامبالاة.
تبئير المتضائل والمتلاشي، استنطاق الأعضاء المتآكلة للمادة/الجسد، استرداد الأصوات والهمهمات ودبيب الكائنات رهان لاستعادة قارة مهجورة من الصور والمعاني إلى خانة المفكر فيه والانفعال به… هو رهان أسلوبي متواتر في أعمال بلعباس. لا يفعل ذلك بوازع إثنولوجي فج، ولا بنوستالجيا منقادة سجينة هوس بالفقد وعجز عن كبح العواقب العرضية للزمن الماحق والمتلف. يفعل ذلك ليوقظ المشاعر الخاملة فينا والحواس المتكلسة تجاه ثراء كينونة يفقرها اللهاث خلف سعادة منقوصة المعنى. ذلك المعنى الذي يبلغ ذروته، مثلا، في اشتباك ناعم لأيدي زوجين يتنزهان في ربيع غابوي يروض خريف العمر المشارف على الانطفاء.
ينسج حكيم بلعباس أفلامه برغبة في مشاطرة حميمة، وبمكر عدوى تورط المشاهد/ الشريك في تجرع ما يقيم فيه تحت الجلد. تلك الرعشات التي تنفثها مشاهد منتزعة بعين القلب من طيات الزمن وأطلال المكان تشير إلى فعل اللامرئي الذي لا يسعه البصر، لأنه يتوغل تحت الجلد.
ما الذي يغري نجما بارزا مثل أمين الناجي بالمشاركة في فيلم بلا بطولة ولا أبطال؟ ما الذي يقنعه مع أسماء من حجم سناء العلوي وحسناء المومني وزهور السليماني وحميد نجاح بتوقيع حضور محدود زمنيا في فيلم كاد أن يكون بلا وجوه محددة؛ لأن الوجوه التي حملقت في الكاميرا، بقدر ما افترست الكاميرا أخاديد الزمن عليها، وجوه استعارية لن تسكن المشاهد إلا بإحالتها إلى زمن يراد تجميده أو على الأقل تشييعه بما يستحق من خلود في الذاكرة والمتخيل الجمعي؟.
هي وجوه لمجرى الزمن متأرجحا بين احتمالات الفرح والألم، يحاول حكيم بلعباس من خلالها القبض على الجوهر المنفلت للكينونة حين يكون ضروريا أن تتهاوى الجدران ويبهت طلاؤها ويسدل الضوء عن عين الشيخ ويحل الموت بأفدح تجليات الغياب. متعة معذبة لكنها ليست سوداوية مستهلكة؛ فشخصيات بلعباس، بالإجمال، محبة للحياة، تترنح مكلومة بعوادي الحياة مثخنة بالخيبات.. لكنها تصرخ وتطلب الحب وتريد أن تعيش بكرامة.
تحدث كثير من الممثلين عن عالم حكيم بافتتان خاص، عن حساسية فريدة وورشة تعلمهم الكثير عن أنفسهم وعن مهنة الممثل. يكاد المرء يسأله: ماذا فعلت بزهور السليماني؟ في دور أم تقيم حفل زفاف ابنتها بعجوز متصاب ينقذ شرف الأسرة، يداهمها في الغرفة المجاورة لباحة الحفل موت أمها، فتسدل الإزار على الوجه البارد وتغلق باب السر بالمفتاح وتعود إلى الصخب راقصة رقصة الذبيح بعد أن ظلت تردد قرب الجثمان في أنين مكتوم: “ماشي دابا آمي. ماشي دابا آمي..”. في دقائق معدودة تؤكد زهور أنها ليست كوميدية وكفى؛ بل واحدة من أعظم ممثلات المغرب. ما أبانت عنه سناء العلوي من اقتدار في الدراما كرسته في تجربتها مع حكيم. كذلك شأن حسناء المومني وحنان بنموسى وغيرهما، دون إغفال مجموعة طلبة المعهد العالي للفن المسرحي والتنشيط الثقافي.
يتقشف الفيلم في الحوار المنطوق. بعضه مفرط في شاعريته؛ على غرار مونولوغ المرأة التي فقدت ابنها وتتعهد شابا خارجا من السجن، تأويه في غرفة الفقيد، يلبس ملابسه ليعيش الطيف في عينيها. ترثيه بلوعة وعنفوان في الآن نفسه: “ولدي.. كبدتي.. ولكن مكتاب الله”. تكرر العبارات مرات على غرار الأرملة الملتحفة بالبياض، والتكرار يكتسي قيمة تعبيرية شعرية بامتياز.
مغزل الصوف، قفص الطائر، فرن الخبز في حي عتيق، زاوية الشرفاء، حصان يستحم بعناية فارسه الذي يحاكي صهيل الخيل بأهازيج مغرقة في تراثها البدوي الشعبي، حانة فقدت معلمها وزبائنها، ملعب الكرة، قاعة السينما المهجورة…تحضر وجوه أبي الجعد بلا مساحيق، يوثق من خلالها المخرج/ المؤلف انتماءه إلى هوية جامعة ممانعة تكمن ولا تندثر. هويتنا جميعا، لأن الأمكنة والقصص جمع لمفرد يتضاعف.
جدار ناصع علقت عليه أقفاص الطيور المغردة. يقف بينها الشيخ المربي. تثبت الكاميرا عدستها على المنظر الثابت ثم يتحرك الشيخ خطوات إلى الأمام فيبدو كما لو خرج من لوحة زيتية. اقتناص جميل لجدلية الثابت والمتحرك، ما يبقى وما يندثر.
بمعنى ما، يكرر حكيم بلعباس نفسه، بوعي؛ لأنه مقتنع بأن الأمر يتعلق بقصة واحدة تنبعث بنسخ متنوعة، ولأن القضايا الوجودية التي تتمحور حول الشرط الإنساني أزلية وغير قابلة للنضوب. التكرار هنا بصمة المبدع التي لا تخطئها العين، وهوية الطرح والمشروع الذي يقد من حساسية فائقة تجاه الآلام والأحلام، خصوصا تلك المحجوبة خلف الجدران.
ليست اللقطة المكبرة صيحة اعتباطية؛ بل إنها اختيار دقيق في زمنه وموضوعه. يطيب لحكيم استخدامها مترصدا اختمار الانفعال على الجفون المتعبة والعيون الغائرة أو الشفاه المرتجفة والأيدي المرتعشة. الجسد مرآة صادقة لعصف الزمن، وحكيم يملك صبرا كافيا لاستنطاق الآلام الصامتة والمكابرة. شراكته مع مدير التصوير، التونسي المبدع أمين المسعدي، تغني المقترح البصري في أفلامه.
بين الحكايات التي لا يجمعها خط درامي موحد، يهتدي حكيم إلى فضاء يكون المنطلق والمنتهى. يبدأ الفيلم من قاعة سينما مهجورة، تحل بها عجوز عمياء لتشاهد بعين القلب أشلاء من ذاكرة مدينة صغيرة، متوغلة في الثقافة البدوية الفلاحية وفي العوالم الروحية الصوفية، وينتهي بمغادرتها للقاعة، التي ليست إلا قاعة السينما التي امتلكها والد بلعباس، حيث تفتحت ذائقة حكيم الطفل الذي كان، وشب وعيه البصري. في زحمة الصور التي كانت تتدفق في قوتها وخطابها الفكري والروح والجمالي، تنسل لدى من تابع مسار بلعباس صور متواشجة من “أشلاء” و “عرق الشتا” و”خيط الروح”… ذلك لأنها القصة نفسها.. أو تكاد.