يتمحور النقاش الدائر في المغرب حاليا حول أزمة الماء على الجانب المتعلق بتدبير الندرة، لكن هناك جانب آخر غائبا عن النقاش يتعلق بتزايد نسبة تلوث المياه، سواء السطحية أو الجوفية، نتيجة تسرب المخلفات الصناعية أو عصارة النفايات.
في هذا الحوار مع جريدة هسبريس الإلكترونية، تسلط أميمة خليل الفن، الباحثة المتخصصة في الهندسة البيئية والتنمية المستدامة، الضوء على مشكل تلوث الماء في المغرب، إذ ترى أن نسبة التلوث أصبحت مُقلقة، كما تجيب عن أسئلة بخصوص تدبير أزمة ندرة الماء، وحرائق الغابات.
بداية، ما هو تلوث الماء؟.
هو تغيير في التركيبة الكيميائية للماء. نعرف أن الماء يتكون من الهيدروجين والأوكسجين والأملاح المعدنية “HOO”، وعندما تتغير هذه التركيبة يصير الماء غير صالح للشرب وغير صالح للاستعمال.
ما هي أسباب تلوث الماء؟.
هناك أسباب متعددة، من بينها التخلص من المياه العادمة غير المعالَجة في مناطق طبيعية، ما يؤدي إلى تسربها إما إلى الفرشة المائية أو الوديان والأنهار. وهناك أمثلة كثيرة على ودْيان ملوّثة، مثل وادي سبو، وهو من المجاري المائية الكبيرة في المغرب، إذ لم تعد مياهه صالحة للاستعمال، بسبب تسرب المياه العادمة، ومخلّفات المصانع وأوراش الدباغة.
وهناك مصانع لا تراعي البُعد البيئي، وترمي مخلفاتها في المجال الطبيعي، عوض التخلص منها عبر محطات المعالَجة، وهذا ما يجعل تلوث الماء في المغرب مرتفعا جدا، سواء المياه الجوفية أو السطحية.
ومن أسباب تلوث المياه في المغرب أيضا المطارحُ العمومية غير المراقَبة، وأبرزها مطرح مديونة في جهة الدار البيضاء، الذي جعل الفرشة المائية المحيطة به غير صالحة للاستعمال، لأنها ظلت لسنوات طويلة عُرضة لتسرُّب عُصارة النفايات “الليكسيفيا” التي تتسرب إلى المياه الجوفية.
هل هناك أرقام حول نسبة تلوث الماء في المغرب؟.
سنة 2020، جرى قياس جودة الماء على مستوى 70 نقطة مائية أٌخذت منها عينات، على المستوى الوطني، وتبين أن أكثر من 60 في المائة من النقط المائية التي تم قياس جودتها تراوحت بين سيّئة وسيّئة جدا، أي إن ماءها غير صالح للاستعمال.
هل يؤثر تلوث الماء على الإنسان فقط أم على كل الكائنات الحية؟.
نعرف أن المنظومة الإحيائية تتكون من الإنسان ومن الكائنات الحية التي نعيش معها، وليس الإنسان وحده الذي يحتاج إلى الماء ليعيش، بل هناك كائنات حية أخرى مثل النباتات والحيوانات والكائنات المجهرية، ونُدرة المياه وتلوُّثها يُضرّان بكل هذه الكائنات ويُخلْخلان توازن المنظومة الإحيائية كاملة.
عندما تكون لدينا أنهار ووديان وبحيرات… ملوثة، فإن كل الكائنات التي تعيش في هذه المناطق ستتضرر بشكل مباشر، لأنها تعيش مباشرة وسط التلوث.
ما هي الحلول الممكنة لمعالجة مشكل تلوث الماء؟.
أولا يجب تعميم معالجة المياه العادمة، عبر تعميم محطات المعالجة على صعيد التراب الوطني، لنصل إلى معالجة نسبة 95 في المائة منها على الأقل، حتى لا تتسرب إلى مصادر المياه.
صحيح أن هناك تقنيات لمعالجة الفرشة المائية الملوثة، لكنها مُكلفة جدا من الناحية المادية.
وينبغي أيضا أن تكون هناك مراقبة صارمة لمَكبّات النفايات، وإجبار مدبّريها على الالتزام بمعايير احترام البيئة، وذلك عن طريق معالجة العُصارة لمنع تسربها إلى الفرشة المائية.
ولا بد، كذلك من الاستثمار في البحث العلمي من أجل إيجاد حلول لمشكل تلوث الماء. قد تكون الأبحاث العلمية مكلّفة، لكنها تمكّننا من إيجاد حلول لحماية الماء من التلوث؛ وبالتالي فإنها تظل أقل كلفة من الكلفة التي سيتكبدها البلد بفقدانه جزءا مهما من هذه المادة الحيوية بفعل التلوث.
يعاني المغرب من أزمة نُدرة المياه؛ هل وصلنا إلى مرحلة حرجة أم مازلنا في وضعية متَحكّم فيها؟.
خطر نُدرة الماء في المغرب ليس مستجدا. هذا المشكل مطروح منذ سنة 2012، أي قبل عشر سنوات من الآن، ومنذ ذلك الحين تم وضع المخطط الوطني للماء، الذي كان الهدف منه ترشيد وعقلنة استغلال الموارد المائية، لكن الحاصل هو أننا بعد عشر سنوات مازال المشكل قائما، بل تفاقم.
ولكي نكون موضوعيين، علينا أن نذّكر بأن المغرب يعرف منذ سنوات طويلة تغيرات مناخية بحكم موقعه الجغرافي، وبحُكم طبيعة مناخه الذي يتسم بكونه جافا إلى شبه جاف؛ لذلك فالجفاف هو أمر طبيعي في تاريخ المناخ المغربي، والذي حصل اليوم هو أن حدة الجفاف ارتفعت، بحكم التغيرات المناخية على الصعيد العالمي، ما أدى إلى تفاقم أزمة ندرة المياه، التي هي نتيجة تراكم سنين من التدبير غير الموفَّق.
وهناك عامل آخر فاقم ندرة المياه التي يعرفها بلدنا، هو التدخل البشري، حيث يتم استنزاف الموارد المائية بشكل كبير عن طريق قطاعين أساسيين، هما الفلاحة والصناعة.
الحقينة المائية تقدر بحوالي 18 مليار متر مكعب سنويا، لكن القطاع الفلاحي يستنزف أزيد من 80 في المائة من هذه الموارد، بحكم طبيعة الزراعات، وبسبب نظُم السقي.
صحيح أن نظام الري بالتنقيط مكن من تلافي خسارة 1.6 مليار متر مكعب من الماء سنويا، لكن هذا يبقى غير كاف، لأن الموارد المائية استُنزفت بشكل غير طبيعي.
والقطاع الصناعي أيضا يستنزف الموارد المائية بنسبة تفوق 15 في المائة، إضافة إلى أنه يلوثها، بفعل المخلفات الصناعية غير المعالجة المتسربة إلى المياه.
هل أثمرت المخططات التي وضعها المغرب لمواجهة مشكل ندرة المياه ثمارها؟.
المشكل الذي نعاني منه لا يتعلق بوضع إجراءات، بل بتفعيلها ومواكبتها ومراقبة مدى تنفيذها.
المغرب وضع عدة برامج، من خلال الرؤية الاستشرافية لجلالة الملك محمد السادس، الذي أعطى انطلاقة عدة مشاريع وإستراتيجيات، لكن هناك خللا في التفعيل الذي يؤدي إلى تأخير وتيرة نتائج هذه الإجراءات. وهناك أيضا مشكل المراقبة ما بعد تفعيل الإستراتيجيات، وهو ما أوْصَلنا إلى الوضعية المائية الحالية، التي للأسف يدفع المواطن فاتورتها، إذ تراجعت حصة الفرد من الماء إلى أقل من 600 متر مكعب، بينما كانت خلال العشرين سنة الماضية تتجاوز 1600 متر مكعب.
وماذا عن الإجراءات الاستعجالية المُتخذة من طرف الحكومة الحالية؟ هل هي كفيلة بتجاوز أزمة ندرة الماء في المغرب؟.
بالنسبة لبرمجة تشييد مزيد من السدود فهذه السياسة نهجها المغرب منذ عقود، وأظهرت نجاعتها، إذ جنّبتنا مرارا سنوات الجفاف، لكن يجب أن تكون هناك بدائل أخرى موازية.
بالنسبة لتحلية مياه البحر لا يمكن أن نعتبرها حلا سحريا، لأن لها تبعات وتداعيات على البيئة، ذلك أن الكميات الهائلة من الملْح التي يتم استخراجها من الماء بعد تصفيته إذا لم تتم معالجتها وتثمينها بشكل جيد ستدمّر منظومة إحيائية موجودة في التربة، علاوة على أن الماء الذي تتم تحليته يحتاج إلى إضافة نسبة من الماء العذب ليكون صالحا للشرب، أي إننا بحاجة إلى موارد مائية أصلية.
والخلاصة هي أن كل الحلول البديلة تبقى غير كافية ولن تكون ناجعة إذا لم نُعد النظر في السياسة الفلاحية والسياسة الصناعية.
والسياسة الفلاحية المعتمدة حاليا لا توفر لنا الاكتفاء الذاتي من عدد من المواد الغذائية الأساسية، مثل القمح، ومع ذلك مازلنا نركز على زراعات مستنزفة للثروة المائية، من أجل الرفع من حجم الصادرات.
صحيح أن الجانب الاقتصادي مهم، لكن علينا أن ننتبه إلى الكلفة الباهظة التي سيؤديها بلدنا نتيجة تناقص الموارد المائية. هذا سيؤدي إلى اختلالات بيئية صارخة، وإلى توسع الفوارق الاجتماعية، ومن ثَمّ تأزيم الوضع أكثر.
إذا، المدخل الأساس لتجاوز أزمة ندرة المياه التي نعاني منها هو إعادة النظر في السياسة الفلاحية، وتفعيل القوانين الزجرية في المجال الصناعي، من أجرأة القانون المتعلق بحماية التربة، الذي تمت المصادقة عليه منذ سنوات، لكنه غير مفعّل.
أيضا لا بد من الاستثمار في البحث العلمي، وإدماجه في اتخاذ القرارات السياسات العمومية، وإشراك الأساتذة الباحثين في المجالات العلمية في هذا المضمار، لأنه بدون بحث علمي لا يمكن أن نجد بدائل وحلولا لتجاوز الأزمات التي نعيشها، سواء على مستوى الموارد المائية أو الموارد الطبيعية بصفة عامة.
كيف يمكن التوفيق بين مراجعة السياسات الفلاحية والحفاظ على مردودها الاقتصادي ومناصب الشغل التي توفرها؟.
إعادة النظر في السياسات الفلاحية لا تعني فرملة القطاع، لأن هناك أولويات أخرى كتوفير فرص الشغل، لكن المطلوب هو إعادة النظر في طبيعة المنتجات التي ننتجها، وذلك بالتركيز على زراعات لا تحتاج إلى نسبة كبيرة من المياه، ونستفيد منها نحن أولا، قبل التفكير في التصدير.
المغرب حاليا لا يحقق الاكتفاء الذاتي في مادة القمح، حيث مازال يستورد 90 في المائة من حاجياته من هذه المادة، كما يستورد عددا من المواد الغذائية الأخرى، وهو ما يحتم إعادة النظر في المقاربة المتبعة حاليا، لأننا عندما لا نتوفر على الماء فجميع الإستراتيجيات والمخططات الفلاحية لا يمكن تنفيذها.
لا بد من التضحية بأشياء من أجل استمرار الحياة البشرية والحفاظ على استمرار المنظومة الإحيائية بشكل عام.
هل استعمال المياه العادمة يبقى خيارا آمنا على مستوى صحة المواطنين؟.
إعادة استعمال المياه العادمة تتم بعد معالجتها، وفق معايير تحترم طابع الاستعمال بغرَض السقي، لكن لا يمكن استعمال هذه المياه في الاستعمال الشخصي والشرب، لأنها تتطلب تقنيات جد مكلفة، لكن إذا استمرت أزمة ندرة المياه فقد نجد أنفسنا مرغمين على سلْك هذا الخيار، وذلك لن يتم إلا وفق المعايير التي حددتها منظمة الصحة العالمية.
يشهد المغرب حرائق غابات منذ أيام، هل هي نتيجة عادية لتفاعلات طبيعية أم إنها ناجمة عن أسباب أخرى؟.
هناك العنصر الطبيعي، متجليا في ارتفاع درجة الحرارة خلال موسم الصيف الحالي، خاصة في المناطق الساحلية التي لم تكن تسجل درجات حرارة مرتفعة جدا، لكن هناك أيضا مسؤولية العنصر البشري، لأن ظاهرة حرائق الغابات تكون بفعل التدخل البشري.
ما يفاقم الوضع هو أن الأرض والنباتات فقدت نسبة كبيرة من رطوبتها، بسبب استنزاف الموارد المائية الجوفية، ما أدى إلى جفاف الأرض والنباتات، وهذا ما يسهل انتشار الحرائق بسرعة كبيرة يصعب التصدي لها واحتواؤها.
وهناك أيضا مشكل زيادة نسبة غاز بخار الماء في الهواء، الذي يمتص رطوبة الأرض، ويؤجج الحرائق، حيث يجعل نسبة الرطوبة في الهواء منخفضة، ما يسهل اشتعال الحرائق.
هل يمكن تعويض الغطاء الغابوي المحترق؟.
لن يتم ذلك في الأمد القريب جدا. نحتاج إلى سنين، ونحتاج إلى إستراتيجية سريعة لإعادة تشجير المناطق التي تعرضت للائتلاف، فضلا عن حملات مكثفة لتوعية المواطنين القاطنين في محيط الغابات بضرورة الحفاظ عليها وحمايتها من الحرائق.