إن معاينة موضوعية ومن مسافة تتسع فيها زاوية النظر، من شأنها السماح ببناء قراءات تحليلية للدينامية الجارية التي تشهدها الدولة المغربية في جميع المستويات، كما أن هذه القراءة ستكون منصفة إذا تناولت المغرب في أبعاده البانورامية سواء على المستوى الداخلي أو على الصعيد الخارجي. وهي دينامية تتخذ مسارا تصاعديا رغم بعض التوقفات الاضطرارية. وهذا شيء مقبول ووارد في حياة الدول.
فمنذ صدور تقرير الخمسينية وما صاحبه من نقاش وأسئلة توزعت على خانتين “سيناريو الأمل والمستقبل” و”سناريو الجمود”. بمعنى أن هذا التقرير شخص التجربة المغربية ما بعد الاستقلال، واعتبره في هذه اللحظة مغربا في مفترق الطرق. وهي الإشارة والأسئلة التي حملها الفاعل السياسي على محمل الجد، واعتبر آنذاك تمرينا فكريا يستوجب مجهودا متواصلا بنفس إبداعي واستشرافي كبير، وجعله أرضية خصبة للنقاش العمومي طيلة العقدين الماضين حيث كان التقرير المنجز حول النموذج التنموي الجديد 2021، آخر ما أنتج ضمن هذا السياق الدينامي المؤسس لمغرب يتجدد بقدر تجدد التحديات والرهانات. وهي إشارة دالة على كون المغرب دخل مرحلة جديدة في تاريخه المعاصر عنوانها “التموقع في دائرة الدول الصاعدة”. وحيث أن المتعارف عليه في الأدبيات الاقتصادية أن البلد الصاعد هو البلد الذي يتطور فيه الناتج الداخلي الخام، على مدى فترة طويلة نسبيا (تصل إلى عشر سنوات على الأقل) بوثيرة أعلى بكثير من معدل النمو العالمي. وبالنسبة للمغرب يتعين أن يعمل على تحقيق معدل نمو متوسط للناتج الداخلي الخام بالنسبة للفرد الواحد يفوق %6 خلال الفترة ما بين 2016-2030، وهو هدف ما زال العمل عليه متواصلا وبجدية واضحة. ولبلوغ وتيرة النمو هذه والمحافظة عليها، ينبغي على كل بلد صاعد أو في طور الصعود أن يسعى إلى تعزيز حضوره على مستوى خريطة الشبكات العالمية للإنتاج والتبادل التجاري والمعرفة والرساميل… ومن جهة ثانية فهذا الحيز الزمني هو مساحة موضوعية من شأنها السماح بالقيام بهذه القراءة بناء على مجموعة من المؤشرات الدالة على ولوج المغرب إلى نادي الدول الصاعدة.
إن أهمية هذا التقرير تتجلى في كونه شكل أرضية صلبة لمجموعة من الأعمال والتقارير اللاحقة كان هدفها هو فتح أفق للتفكير بمنافذ متعددة شملت السياسة والاقتصاد والقضايا الاجتماعية والأسئلة الثقافية والهوياتية… في قالب جامع هو بناء مغرب الغد. وقد تعززت هذه الإرادة بمنتوج فكري أبدعت فيه مجموعة من المؤسسات، كالمعهد الملكي للدراسات الاستراتيجية والمجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي والمؤسسات المالية الوطنية (بنك المغرب) والمندوبية السامية للتخطيط… وهي مؤسسات ساهمت في بناء تصورات ورؤى استشرافية للمغرب تمتد للعقود المقبلة. في تناغم بين الاستجابة للمتطلبات الداخلية وتعزيز المكانة الدولية للمغرب.
فبعد مرور حوالي عقدين على الحسم في سؤال المغرب الذي نريد، وهو مغرب المستقبل. يحق لنا استقراء المنجز خلال هذه السنوات. حيث يبدو أن مؤشرات التغيير كانت قوية والمنجز يظهر جليا أمام أية معاينة موضوعية ومنصفة. فالعديد من الملفات واجهها المغرب بجرأة كبيرة انطلاقا من الملف الحقوقي إلى الإقلاع الاقتصادي وبينهما العديد من النتائج الإيجابية على مستوى الطلب والمطالب الاجتماعية، رغم أنها تحتفظ ببعض النواقص التي وجب تداركها وتسطيرها في جدول الأعمال التنفيذي. كما أن هذا المنجز بات اليوم واقعا ملموسا، يحق معه الحديث عن دولة مغربية صاعدة وكفاعل إقليمي له مكانته في مجموعة من دوائر الانتماء الدولي (عربيا، إفريقيا، أوروبيا، أمريكيا وآسيويا)، كما أن المصالح كلغة باتت محددا جوهريا في رسم العلاقات الخارجية والشراكات الاقتصادية الدولية للمغرب على أسس جديدة قوامها الندية والاحترام والشفافية ورابح رابح بمنطق تشاركي. وهي المعادلة التي لخصها الفاعل السياسي المغربي في كون: “أن مغرب الأمس ليس هو مغرب اليوم”.
ففي عز أزمة كوفيد اتضح جليا أن المغرب دولة صاعدة ودولة لها من المقومات ما يجعلها في مصاف الدول الفاعلة، كما أن هذه الأزمة أظهرت مؤشرات جديدة على نجاح المغرب في ولوج نادي القوى الإقليمية النشيطة والمساهمة في المبادرات الإنسانية الدولية. كما أظهرت من جانب أخر أن المغرب دولة لها أسس تأسيسية صلبة ضاربة في التاريخ من حيث مجموعة من الركائز (المؤسسات، الإدارة، الموارد البشرية، البنيات التحتية، الإنتاج الغذائي، صلابة القطاع المالي والبنكي، تأمين الولوج إلى لقاح كوفيد 19…).
وعلى ضوء هذه القراءة المسحية لبعض المنجز منذ انطلاق سيرورة المغرب الذي نريد قبل عقدين، يبدو أن المغرب حقق مؤشرات إيجابية على درب تحصين مكانته الدولية وتعزيز مقومات الدولة الصاعدة التي باتت تترجم يوما بعد يوم على أرض الواقع وهي مؤشرات يمكن بسطها كما يلي:
1- مؤشرات المكانة الدولية:
كان الرهان منذ بداية العهد الجديد هو تثبيت مرتكزات الدولة وتعزيز بنائها المؤسساتي وتنزيل المفهوم الجديد للسلطة. كإشارات دالة على مرحلة جديدة في تاريخ الدولة. وهو الأمر الذي استغرق بضع سنوات ليتم الاشتغال بوتيرة متنامية على الملفات الخارجية وعلى رأسها القضية الوطنية الأولى وهي الوحدة الترابية للمغرب من طنجة على الكويرة. وفي هذا الإطار فتحت الدولة مجموعة من شبكات الاتصال والتواصل مع الشركاء التاريخيين والانفتاح على شركاء جدد وأيضا تعزيز هذا المنحى باستعادة المغرب لمقعده ومكانته في الاتحاد الإفريقي كتتويج لهذا المسار الطويل الذي نحت من خلاله المغرب مكانته الدولية وتموقعه في قلب معادلات الجيوبوليتيك الجديد الناشئ والذي ما زالت عناصره المشكلة تتضح يوما عن يوم. والمغرب يعتبر حجر الزاوية فيه، نظرا لشبكة العلاقات التي تم نسجها على المستوى الإفريقي والعربي والأوروبي والأمريكيتين. وهي مكانة أيضا تعزز بالحضور الوازن والفعال للمغرب في مجموعة من المنظمات والمؤسسات الدولية سواء عربيا أو إفريقيا ودوليا.
2- مؤشرات الانخراط في قضايا السلم والأمن الدوليين
في هذا الإطار لا يمكن تجاهل أو القفز على ما يقوم به المغرب في هذا المجال، والشاهد على ذلك هو تلك الإشادات الصادرة عن الأمم المتحدة والقوى الدولية الكبرى في حق المغرب كدولة راعية ومساهمة في إحلال السلام والأمن الدوليين. وهذا يدل على أن المغرب عضو نشيط وفعال في المنتظم الدولي ومنخرط بشكل فعلي في تدبير بؤر الصراع والنزاعات على المستوى الدولي. وهي مساهمات مادية وعينية وبشرية، تحظى بالتقدير والاحترام من قبل الأمم المتحدة. هذا الانخراط يجسد في أبعاده الدولية على أن المغرب دولة صاعدة ولها رؤية ومساهمة في تدبير القضايا الدولية وخصوصا تلك المرتبطة بالأمن والسلم الدوليين. باعتبارهما ركيزة أساسية للاستقرار والتعايش الدولي.
3- اقتصاد متنوع صامد أمام الأزمات المتتالية
كقوة صاعد يتمتع المغرب باقتصاد متنوع ومتكيف وقادر على استيعاب المتغيرات الدولية الطارئة، اقتصاد قادر على امتصاص الأزمات المتتالية ويتمتع بمرونة التكيف مع هذه المستجدات. حيث حافظت القطاعات الصناعية الحيوية على ديناميتها في منحى تصاعدي يوازيه نشاط متواصل في قطاع الخدمات واللوجستيك الوطني والعبر وطني. هذا مع الإشارة إلى مواصلة الدولة لمجهودها في مجال الاستثمار العمومي كمحرك للاقتصاد والطلب الوطني. وهذه مؤشرات على تجاوز مرحلة الارتهان للأزمات والدخول في مرحلة القدرة على تدبير هذه الأزمات بخيارات متنوعة ومتجددة.
4- توجهات دبلوماسية بنفس استشرافي مفكر فيه
العنوان المؤطر لهذه الدبلوماسية والخيط الناظم لهذه التوجهات، هو احترام منطق الشراكة المتكافئة بين المغرب وشركائه، ومنطق رابح رابح في العلاقات الثنائية للمغرب، وأيضا تعزيز استراتيجية التعاون جنوب جنوب. وهذا كله في إطار سياسة جديدة تمتح من الجيل الجديد للعلاقات الدولية القائم على توظيف المزايا المقارنة والقوة الناعمة كاستراتيجية للبناء وتدشين علاقات جديدة واكتساب حلفاء جدد. ورغم ما تشكله قضية الوحدة الوطنية من تحديات وإكراهات من خلال سعي أعداء هذه الوحدة لتوظيف إمكانيات مالية ودبلوماسية كبيرة لمعاكسة المصالح الوطنية، فإن المغرب جعل من هذه التحديات عنصرا تحفيزيا للابتكار والإبداع، وجعلها عنصر قوة في الموقف التفاوضي للمغرب مع شركائه الدوليين. كما أن التوجهات الدبلوماسية المغربية تنبني على رؤية استشرافية تمتح من الإرث التاريخي الحضاري للأمة المغربية وتوظف الإمكان المتاح حاضرا وتستقرئ المتغيرات المستقبلية.
5- بناء مؤسساتي في أوج العصرنة
في هذا الإطار يشكل النظام السياسي والبناء المؤسساتي رافعة قوية للانخراط والتموقع في نادي الدول الصاعدة، هذا البناء المؤسساتي يتعزز يوما بعد يوم بالممارسة السياسية والتداول السلمي على السلطة من خلال احترام الدولة للمواعيد الانتخابية والرفع من المشاركة السياسية للمواطن والانفتاح على الديناميات المجتمعية، مما يعزز من الامتدادات المجتمعية للمؤسسات المنتخبة ويقوي مرتكزات البناء الديمقراطي والتزامات المغرب بدولة الحق والقانون. كما أن الإدارة المغربية وما شهدته من تحولات كبرى وإصلاحات عميقة في السنوات الأخيرة على درب التحديث والعصرنة، تشكل مدخلا أساسيا في سيرورة تعزيز هذه المؤشرات الدالة على الصعود. وتجدر الإشارة في هذا السياق إلى أن ثقة الشركاء والمستثمرين من خلال توسيع الشراكات القائمة وجغرافية الاستثمار الخارجي وتوطين الصناعات العالمية، يتعزز من خلال جودة ومثانة هذا البناء المؤسساتي الحديث للدولة، ويشكل بالنتيجة عامل تثبيت وتقوية لمكانة المغرب الدولية.
6- المصداقية والشفافية كمدخل لجاذبية الاستثمار
للتدليل على هذا المؤشر يكفي الإشارة إلى الثقة التي تحظى بها الدولة المغربية من طرف المؤسسات المالية الدولية ومؤسسات التصنيف الدولي للمؤشرات الاقتصادية. حيث تعتبر هذه الثقة والتقارير المنجزة حولها، دليلا توجيهيا لأي مستثمر أجنبي لاتخاذ قرار الاستثمار في أي دولة. والمغرب كدولة تتمتع بهذه المصداقية فهي في منحى تصاعدي في مجال جذب الاستثمارات الأجنبية وتوطين العديد من الأنشطة الصناعية العالمية. وبما أن التمويل جزء أساسي في أي مجهود استثماري فالمغرب يحظى بالثقة والاستجابة لكل طلبات التمويل والشراكة المقدمة من طرفه لهذه المؤسسات (خط السيولة الائتماني الذي يتوفر عليه المغرب والذي تم تجديده في أكثر من مناسبة. المشاريع المغربية الممولة من طرف مجموعة من المؤسسات المالية الإقليمية كالبنك الإسلامي للتنمية والبنك الأوروبي للتنمية والبنك الإفريقي للإنماء…)، مما يجعل منه قبلة للاستثمار والفرص الاقتصادية. ومن جانب آخر تتعزز هذه المصداقية بالتأهيل القانوني والتشريعي المصاحب لمناخ الأعمال والاستثمار بالمغرب.
على ضوء هذه الإشارات المركزة حول مؤشرات الصعود التي بدأت تتضح معالمها في التجربة المغربية خلال العقدين الماضيين، يمكن القول إن المغرب بدأ يتموقع باستحقاق وكفاءة في نادي الدول الصاعدة بمقومات تنافسية كبيرة، وهذا التموقع الجديد هو الذي يفسر تلك المناكفات وبعض الضربات التي توجهها بعض القوى المنافسة، بحيث يشكل هذا الصعود للمغرب عنصر تنافسية لهذه القوى وتهديدا لمصالحها التي لطالما كانت قائمة وتستفيد منها. غير أن المواقف الصلبة للمغرب في مجموعة من القضايا ودفاعه القوي عن مصالحه العليا هو دليل على أن مغرب اليوم ليس هو مغرب الأمس وأن العلاقات والشراكات القائمة تستوجب إعادة القراءة والتحديث.